Loader
عبد الله بن غديّان .. العلم في حضرة رمضان

الخميس 12 أغسطس 2010 00:02

قبل تسع سنوات وتحديدا في مدينة الطائف، كنا مجموعة من طلبة العلم في رحلة لزيارة سماحة مفتي عام المملكة وبعض أعضاء هيئة كبار العلماء، حيث مقر عملهم الصيفي المعتاد سنويا.

ولم يحالفنا الحظ لزيارة الشيخ عبدالله بن غديان في مكتبه، فقررنا تأجيل الزيارة إلى المساء في الحي الذي يسكن فيه، وفور وصولنا إلى ذلك الحي سألنا عن الشيخ فقالوا إنه يصلي في مسجد قريب من بيته.

عندما دخلت إلى المسجد آنذاك برفقة زملائي رأينا رجلا في زاوية المسجد يصلي وحيدا بعد أن انقضت صلاة العشاء وخرج كل الناس ولم يبق سواه، ظننا أن الذي دلنا على مكان الشيخ أخطأ ودلنا على رجل آخر، إذ لم نصدق أن العالم الكبير الذي كنا نسمع عنه وعن فتاواه وعضو في هيئة كبار العلماء بهذا المظهر البسيط الذي خالف الصورة التي رسمناها عن الشيخ في أذهاننا.

عدنا إلى ذلك الشخص لنتأكد من صحة وصفه، فأكد لنا أن الذي رأيناه في المسجد هو الشيخ عبدالله بن غديان نفسه، ورجعنا إلى المسجد ننتظر الشيخ إلى حين فراغه من صلاته.

وعند فراغ ابن غديان ـ يرحمه الله ـ من الصلاة، بادأنا بالسلام وقابلنا بابتسامة وسألنا من نحن فأجبناه وقلنا له إننا نرغب في الجلوس إليك لدقائق لنستفيد من علمك فوافق ــ يرحمه الله ــ وكانت ساعات شيقة لا تنسى، إذ امتزجت فيها صرامة الشيخ بلطفه ونصائحه وتوجيهه وظل يجيب على أسئلتنا دون ملل منه أو تضجر وفتح صدره لنا لنقول كل ما لدينا، فظل صدى تلك الجلسة يتردد في مجالسنا كل ما اجتمعنا ببعضنا.

هذا ببساطة ما كان عليه عضو هيئة كبار العلماء واللجنة الدائمة للإفتاء الراحل الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن غديان ـ يرحمه الله ـ



عن الشيخ الجليل يقول مفتي عام المملكة رئيس هيئة كبار العلماء الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ إنه كان في درجة عالية من الالتزام بالعلم والعمل الصادق «حفظنا عنه أنه متق ربه وذو علم وورع وتقوى وتأن في الأمور وثبات على المبدأ ومؤد للعمل وقتاً وأداء وعملا طيباً ودعوة وإرشادا».

وذكر مفتي عام المملكة أن ابن غديان كان يوصي طلابه وزملاءه بالأناة في الأمور والتثبت في الفتاوى وعدم التسرع فيها والنظر في مآلات الأمور.

الدقة المتناهية

أما عضو هيئة كبار العلماء والمجلس الأعلى للقضاء الدكتور علي بن عباس حكمي فيقول «تميز ابن غديان بالدقة المتناهية فيما يعطي من العلم ويتكلم به من الفتاوى والأحكام، إضافة إلى التواضع والبعد عن الشهرة، وكان حين المناظرة والنقاش يحرص على ظهور الحق عند مخالفيه».

احترام الآخرين

ويتذكر المستشار في الديوان الملكي الدكتور عبدالمحسن العبيكان أحد المواقف مع الشيخ عبدالله بن غديان «كان يصر على أن أفتي الحجيج في ميقات السيل الكبير إبان تكليفه بالإفتاء هناك، وكنت قاضيا في ذلك الوقت مع صغر سني وهذا من تواضعه، وكان يوصيني بأن استقل برأيي في إصدار الأحكام وعدم التقليد حتى لمن هم أكبر مني سنا».

وأضاف العبيكان «كان يرشدني إلى الكتب التي ينبغي الأخذ بها، وكان من العلماء الذين يحترمون آراء الآخرين فلم نسمع أنه تسلط على أحد بسبب مخالفة رأيه في وسائل الإعلام، كما أنه لا تعرف عنه الإثارة أو التنقص من المخالفين أو التثريب أو النيل منهم، وإنما كان يبدي رأيه بهدوء».

العلم الغزير

يروي عضو مجمع البحوث التابع للأزهر الدكتور محمد بن أحمد الصالح ذكرياته مع الغديان فيقول «عرفته منذ أن كنت صغيرا قبل 50 عاما بخلق عظيم وتجرد وصدق وإخلاص وعلم غزير وفقه دقيق وإدراك كامل لشتى العلوم، عفيف اللسان نقي القلب يتصف بالصلاح والتقوى ولا يتعرض لأحد بأذى، جاد مجتهد في تحصيل العلم ونشره».

ويبين الصالح «تلقى العلوم عن نخبة من علماء المملكة ثم عمل في القضاء ثم معلما في معهد الرياض ثم إلى كلية الشريعة ثم في دار الإفتاء فصار عضوا مؤسسا لهيئة كبار العلماء واللجنة الدائمة للبحوث العلمية ويعتبر من قمم العلماء ومن العلماء الربانيين العاملين الصادقين الزهاد بعيد عن التعلق بمظاهر الدنيا، يعيش عيشة فيها البساطة والحب للجميع ومخلص لدينه ومحب لدولته وحريص على طلابه وكل صفات الخير والكمال».

وأفاد الصالح أنه طلب من وزير الثقافة والإعلام الدكتور عبدالعزيز خوجة أن تعاد حلقات ابن غديان ـ يرحمه الله ـ في برنامج نور على الدرب وتخرج تسجيلاته في الإذاعة حتى ينتفع بعلمه.

العالم الرباني

ويصف أستاذ أصول الفقه المشارك في جامعة الطائف الدكتور فهد بن سعد الجهني ابن غديان بأنه من العلماء الربانيين «كانوا وما زالوا يهتمون بالمخابر دون المظاهر وبالجوهر دون العرض، وكان الشيخ من هذا الصنف العظيم، فهو في هيئته وزيه وعلاقاته في المجتمع آية في الزهد والورع، وكثيرا ما كان يدخل الداخل عليه في مكتبه فلا يدري من الشيخ من بين الجالسين، وكان في حياته كلها منصرفا للعلم والدرس والفتيا والدعوة والإشراف، ولم يكن يغشى المجالس مهما كانت فلا تراه إلا في مكتبه أو مسجده أو بيته».

وعن عبادات بن غديان في رمضان يقول نائب المشرف على مؤسسة الإسلام اليوم الدكتور عبدالوهاب الطريري «ختم القرآن في صلاة التراويح مرتين ووصل في الثالثة إلى سورة الأعراف، إذ كان يصلي خمس تسليمات طوالا».

أما عن عبادته في بقية العام فيقول أحد طلبة الشيخ وهو عضو هيئة التدريس في المعهد العالي للقضاء الدكتور سعد بن مطر العتيبي «كان مكثرا في صلاته للنوافل، مع عنايته بالسنن الراتبة، قبلية وبعدية، وبصلاة الليل، وكان قبل بضع سنوات يصلي راتبة العشاء، ثم يصلي ما تيسر له فيما يقارب 11 أو 13 ركعة ويدعو في الوتر».

الزهد والورع

وعن حياته الخاصة يقول العتيبي «لم يمتلك الشيخ دارته ملكا خاليا من الدين، إلا قبل وفاته بثلاث سنوات أو تزيد قليلا، ولم يكن يظهر عليه شيء من التمظهر بالزي المتميز الذي يحرص عليه بعض طلبة العلم، فضلا عن أقرانه من كبار العلماء الأجلاء، حتى أنه لا يمكن معرفته إلا لمن يعرفه من قبل». وعن منهجه في التدريس يوضح عضو هيئة التدريس في المعهد العالي للقضاء «كان ــ يرحمه الله ــ يعتمد في تدريسه القواعد الفقهية كتبا من المذاهب الأربعة؛ لنعرف القواعد المتفق عليها من القواعد المختلف فيها في مذاهب الأئمة، إضافة إلى معرفة الفروق بين صيغ القواعد عند كل مذهب. وكانت له أفكار طموحة في تكوين رابطة للعلماء، وذلك قبل تكوين بعض المؤسسات الشرعية على المستوى الإسلامي والمحلي، كما كان أحد الشخصيات الرئيسة في فتاوى اللجنة الدائمة، وفي قرارات هيئة كبار العلماء».

بره بوالدته

ويتذكر عضو هيئة التدريس في المعهد العالي للقضاء الدكتور محمد بن فهد الفريح موقفا حصل لابن غديان ــ يرحمه الله ــ وذلك حين طلب منه مفتي عام المملكة الراحل الشيخ عبدالعزيز بن باز أن ينتقل معه إلى التدريس في الجامعة الإسلامية، فاعتذر ابن غديان بأنه القائم بشؤون والدته، وأنه لا يريد أن ينقلها من مكان إلى آخر لمصلحته الشخصية، فقال ابن باز: عذرتك، وأوصيك ببرها.

وقال الفريح إن ابن غديان ذكر له التالي «إنه حينما ذهب ابن باز للمدينة وذهب الشيخ محمد الأمين الشنقيطي إلى المدينة للتدريس في الجامعة، كلفت بأن أسد محله في تدريس مواده في الأصول في كلية الشريعة في الرياض، وكانت ستة عشر درساً كلها في أصول الفقه، وكنت ألقي تلك الدروس وأنا واقف وليس معي كتاب أقرأ منه، بل كنت حين ألقي الدرس كأني أنظر إلى الكتاب من استحضاري لمسائله».


ابن غديان .. سيرة زهد وتواضع ونبذ للشهرة



عبدالله بن عبدالرحمن بن عبدالرزاق بن قاسم آل غديان، من آل محدث من بني العنبر من بني عمرو بن تميم، وينتهي نسبه إلى عمود (طابخة) ابن إلياس بن مضر من أسرة العدنانيين، ومن جهة الأم يرجع نسبه إلى آل راشد من عتيبة، وترجع عتيبة إلى هوازن. ولد عام 1345هـ في مدينة الزلفي.

تعليمه:

تلقى مبادئ القراءة والكتابة في صغره على عبدالله بن عبدالعزيز السحيمي، وعبدالله بن عبدالرحمن الغيث، وفالح الرومي، وتلقى مبادئ الفقه والتوحيد والنحو والفرائض على حمدان بن أحمد الباتل، ثم سافر إلى الرياض عام 1363هـ فدخل المدرسة السعودية الابتدائية (مدرسة الأيتام سابقا) عام 1366هـ تقريبا، وتخرج فيها عام 1368هـ.

عين مدرسا في المدرسة العزيزية، وفي عام 1371هـ دخل المعهد العلمي، وكان أثناء هذه المدة يتلقى العلم على سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، كما يتلقى علم الفقه على الشيخ سعود بن رشود (قاضي الرياض)، والشيخ إبراهيم بن سليمان في علم التوحيد، والشيخ عبداللطيف بن إبراهيم في علم النحو والفرائض، ثم واصل دراسته إلى أن تخرج في كلية الشريعة عام 1376هـ، وعين رئيسا لمحكمة الخبر، ثم نقل للتدريس بالمعهد العلمي عام 1378هـ، وفي عام 1380هـ عين مدرسا في كلية الشريعة، وفي عام 1386هـ نقل كعضو للإفتاء في دار الإفتاء، وفي عام 1391هـ عين عضوا للجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالإضافة إلى عضوية هيئة كبار العلماء. وتوفي رحمه الله يوم الثلاثاء 18/6/1431هـ الموافق 1يونيو 2010م.

أبرز مشايخه:

الشيخ محمد بن عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ

الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، تلقى عليه علم الفقه.

الشيخ عبدالله الخليفي، في الفقه أيضا.

الشيخ عبدالعزيز بن رشيد، في الفقه والتوحيد والفرائض.

الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، في أصول الفقه وعلوم القرآن والتفسير.

الشيخ عبدالرحمن الأفريقي، علم المصطلح والحديث.

الشيخ عبدالرزاق عفيفي.

عبدالفتاح قاري البخاري، أخذ عنه القرآن برواية حفص عن عاصم، يسنده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وغيرهم.

مسيرته العلمية:

كان أثناء عمله من عام 1389هـ يقوم بتدريس الفقه وأصوله وقواعده، والحديث ومصطلحه، والتفسير وعلومه، والعقيدة، والفقه في حلقات منتظمة غالب أيام الأسبوع حسب الظروف بعد المغرب وبعد العشاء، وأحيانا بعد الفجر وبعد العصر، ومن عام 1395هـ كان ــ بالإضافة إلى عمله في الإفتاء ــ يلقي دروسا على طلبة الدراسات العليا في جامعة الإمام وكلية الشريعة في الفقه والأصول وقواعد الفقه وقاعة البحث ويشرف ويشترك في مناقشة بعض الرسائل، ومن خلال هذه الفترة تلقى عليه العلم عدد كثير من طلاب العلم، كما رشح عام 1381هـ ضمن من ينتدبون إلى التوعية والإفتاء في موسم الحج إلى الوقت الحاضر، ولما توفي الشيخ عبدالله بن حميد عام 1402هـ، تولى الإفتاء في برنامج نور على الدرب، ولله الحمد.

وفاته:

انتقل إلى رحمة الله يوم الثلاثاء الموافق 18 جمادى الآخرة من عام 1431هـ عن عمر يقارب الـ 86 عاماً. وصلي عليه في جامع الملك خالد في حي أم الحمام في الرياض يوم الأربعاء 19 جمادى الآخرة بعد صلاة العصر وأم المصلين الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ مفتي عام المملكة العربية السعودية رئيس هيئة كبار العلماء ورئيس إدارة البحوث العلمية والإفتاء.