حكم صلاة من يرتكب المعاصي
- الصلاة
- 2021-09-07
- أضف للمفضلة
الفتوى رقم (1371) من المرسل أ. س. م، من الكويت، يقول: أنا شاب متزوج ولديّ ولد والحمد لله، وملتزم بتعاليم الإسلام والخوف من الله عزوجل؛ ولكن أحياناً يقع مني بعض الأخطاء، لذلك فإنني أشك في قبول أعمالي الصالحة من صلاتي وغيرها، لتعارضها مع قوله -تعالى-:"إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ"[1]، ومع قول الرسول ﷺ: « من لم تنهَهُ صلاته فلا صلاة له »[2]، وخصوصاً أنني أصلّي أوقاتي كلها من الفجر إلى العشاء في جماعة والحمد لله، وإذا فاتني وقت عن الجماعة أعتبر نفسي كأني لم أصلِّ هذا الوقت، والشيطان -لعنه الله- يراودني في الصلاة ويقول: فعلت كذا وتصلّي. وإنني لستُ متعمداً لمعصيةٍ لربي إلا عند الاضطرار، وخوفاً من الوقوع في شيءٍ أكبر؛ ذلك أنني لا أسافر إلى أهلي إلا كلّ ستة أشهر. أفيدوني ما الحكم في تلك الخطايا وأعمالي الصالحة الأخرى؟ وكيف التوفيق فيما يقع مني وبين الآية الكريمة والحديث الشريف؟
الجواب:
الإنسان بطبيعته بشر، ومن صفات البشرية أن الشخص لا يكون معصوماً، ولهذا يقول النبي ﷺ: « كلّ بني آدم خطّاء وخير الخطائين التوابون »[3]. وفي الحديث الآخر: « لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم ولَجاء بقومٍ يُذنبون فيستغفرون فيغفر لهم »[4].
وجاءت أدلة كثيرة دالة على هذا الأصل، فأبونا آدم -عليه الصلاة والسلام- نهاه الله عن الأكل من الشجرة، ومع ذلك أغواه الشيطان حتى أوقعه في الأكل منها فتاب فتاب الله عليه، وهكذا بالنسبة لما وقع من أحد ابني آدم على أخيه حيث وصل الأمر إلى أن قتله.
المقصود جاءت أدلة كثيرة في القرآن وأدلة كثيرة في السنة تدل على وقوع الذنب من البشر.
ومن جهة أخرى جاءت أدلة كثيرة في القرآن وفي السنة دالة على أن العبد إذا التجأ إلى الله بعد وقوع الذنب منه فإن الله -جلّ وعلا- يقبل توبته، ومن ذلك قوله -تعالى-:"قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ"[5]، ويقول -تعالى- في سورة الفرقان:"وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)"[6]. وفيه آيات كثيرة لا يتسع وقت البرنامج إلى ذكرها؛ ولكن الغرض هو التنبيه.
ومن جهة ثالثة: أن العبد إذا حصل منه الشيء فإنه يلجأ إلى الله -جلّ وعلا-، ويندم على فعله، ويعزم على عدم العودة إلى ما فعل، ويُقلع من الذنب، ولا يكون مضمراً في نفسه أنه يعود إليه. إذا أضمر في قلبه أنه يعود إليه، تكون توبته توبة المتلاعب. هذه الأمور الثلاثة جاء تقريرها في القرآن وفي السنة؛ يعني: وقوع الذنب، ووقوع المغفرة للذنب، ومسارعة الإنسان إلى التوبة على حسب ما تقدم من ذكر الشروط.
ومن جهة رابعة: أن العلاقة بين الأعمال الصالحة التي يعملها الإنسان والأعمال المخالفة: أن من الأمور المخالفة ما إذا فعله الإنسان فإنه لا يبقى معه إسلام، فمن أشرك شركاً أكبر، أو أتى بمكفّرٍ أكبر، أو أتى بنفاقٍ أكبر، فمن عبد غير الله -جلّ وعلا-، أو عبد معه غيره، أو أنكر القرآن أو شيئاً منه علانيةً، أو أنكر ذلك في قلبه؛ ففي هذه الحال لا يبقى معه إسلام، فجميع الأعمال التي يعملها الإنسان من أعمال الخير مع أن هذه الأمور حصلت منه، وهي الشرك الأكبر، والنفاق الأكبر، والكفر الأكبر، وليس من اللازم أن تكون مجتمعة، يكفي واحد منها، فلا يُقبل له عمل والحالة هذه.
ومن الأمور التي يعملها الإنسان -وهي مخالفة للدين- الشرك الأصغر، فإذا عمله الإنسان فإنه لا يُنافي أصل دينه؛ ولكنه ينافي كماله، فالأعمال التي يعملها من أعمال الخير تكون محسوبة له، ولكن الشرك الأصغر الذي يصدر منه هذا لا شك أنه مؤثر؛ ولكن لا يصل إلى درجة إخراجه من دائرة الإسلام كما كان في الأمر الأول.
وفي الحالة الأولى: إذا مات ولم يتُب فإنه خالدٌ مخلدٌ في النار، قال تعالى:"إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ "[7]، "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا"[8].
وبالنسبة للحالة الثانية: إذا مات وهو مصرٌ على الشرك الأصغر، فإما أن يُدخله الله النار ويُطهره، وإما أن ينقُص من درجته في الجنة لعموم قوله تعالى:"إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ"[9]، فالله لا يغفر الشرك لا كبيره ولا صغيره؛ ولكن صاحب الشرك الأصغر مآله إلى الجنة، إما أن يُدخله الله النار ويُطهره ثم يُخرجه منها، وإما أن يُقلل درجته في الجنة على قدر شركه الأصغر ويُدخله الجنة.
وتارةً يكون عمل الإنسان المخالف للإسلام من كبائر الذنوب؛ كشرب الخمر والزنا إلى غير ذلك من كبائر الذنوب التي لا تصل إلى درجة الشرك الأكبر، أو الكفر الأكبر، أو النفاق الأكبر، أو الشرك الأصغر؛ فهذه إذا مات الإنسان مصراً عليها فهو تحت مشيئة الله، إن شاء عفا عنه وأدخله الله الجنة برحمته، وإن شاء أدخله النار وطهره فيها ومآله إلى الجنة.
وقد يكون ما يفعله الإنسان من صغائر الذنوب، ولكن يكون مصرّاً عليها، يُبيّن له الحكم ويكون مصراًّ عليها، ففي هذه الحال إذا أصرّ على صغيرة فإنها تكون كبيرة، وحكمها حكم الكبائر. وإذا كان الشخص يفعل صغائر الذنوب من غير إصرار فهذه تكفّرها الأعمال الصالحة؛ كما في قوله تعالى:"إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا"[10]، وقد جاء بيان ذلك في قوله ﷺ: « الحج إلى الحج، والعمرة إلى العمرة، ورمضان إلى رمضان، والجمعة إلى الجمعة، والصلوات الخمس مكفرات لما بينهن إذا اجتُنبت الكبائر ». فهذا الحديث فيه بيان للمقصود من الآية.
فحاصل ما تقدم أن ما يعمله الإنسان مما يُوجب خروجه من الإسلام لا يُقبل معه عمل. وما يعمله من الشرك الأصغر تُحسب له أعماله الصالحة، وما يفعله من كبائر الذنوب تُحسب له أعماله الصالحة، وإثم فعله هذا عليه. وما يفعله من صغيرة يُصر عليها فحكمها حكم الكبيرة. وما يفعله من صغائر الذنوب بدون إصرار فإنها تكفرها الأعمال الصالحة.
ومما يُحسن التنبيه عليه -هنا- هو أن بعض الأشخاص قد يروِّجون على بعض الأشخاص الآخرين؛ يعني: أناس ينتسبون إلى العلم ويروجون على الناس الذين يقع منهم شيء من كبائر الذنوب، فيقولون -مثلاً-: إن الشخص إذا فعل كبيرة من كبائر الذنوب فإنه لا تُقبل صلاته ولا حجه ولا صيامه، ولا يُقبل له عملٌ صالحٌ، وهذا المذهب هو مذهب الخوارج الذين يكفّرون بالمعصية، وإذا حصل نزاع فإنه يُتحاكم إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله ﷺ، وفي هذا يقول الله -جلّ وعلا-:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ"[11]، الآية.
فطاعة الله باتباع ما جاء في كتابه. وطاعة الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- في اتباع ما جاء في سنته. وطاعة أولي الأمر من جهتين:
الجهة الأولى: طاعة أولي الأمر الذين هم العلماء، فيُطاعون في بيانهم لكتاب الله ولسنة رسوله ﷺ.
والجهة الثانية: طاعة أولي الأمر الذين يُنفذون أحكام الله -جلّ وعلا- على خلقه اعتماداً على بيان أهل العلم لهم؛ فالمقصود أن الإنسان لا ينبغي له أن ينساق إلى أي شخصٍ يبيّن له التحليل والتحريم؛ بل عليه أن يتأكد من الناس الذين يثقُ بهم وثوقاً كاملاً.
و مما يُحسن التنبيه عليه -هنا- أيضاً في هذه المسألة أنه كان في الزمن الماضي رجلٌ قتل تسعاً وتسعين نفساً، فجاء يستفتي عالماً هل له من توبة، فقال له: لا أجد لك توبة، فقتله وكمّل به المائة، ثم ذهب إلى عالمٍ آخر فسأله هل يجد له توبة، فقال له: من يحول بينك وبين الله -جلّ وعلا-، ونصحه بأن يهاجر من البلد التي عصى الله فيها إلى بلد أخرى ذكرها له، فهاجر وفي أثناء الطريق جاءه ملك الموت وقبضه، ثم بعد ذلك نزلت ملائكة الرحمة ونزلت ملائكة العذاب، ملائكة الرحمة تريد أن تذهب به إلى الجنة، وملائكة العذاب يريدون أن يذهبوا به إلى النار، فأنزل الله ملكاً قضى بينهم، فقال لهم: قيسوا البلاد التي جاء منها والبلاد التي ذهب إليها، فألحقوه بأقربهما إلى مكانه، فقاسوا البلد التي ذهب منها والبلد التي اتجه إليها؛ فوجدوا أن البلاد التي اتجه إليها أقرب فأخذته ملائكة الرحمة.
والمقصود من إيراد ذلك هو الفرق بين فتوى العالم الأول وبين فتوى العالم الثاني، فقصدي من هذا هو أن الإنسان إذا أشكل عليه أمر من أمور دينه، فإنه يتحرى -بكلّ ما يستطيع- أن يصل إليه من دقة للحصول على جوابٍ يكون موافقاً لما في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، حتى لا يقع في يأسٍ كما وقع السائل، فإن سؤاله يدل على قوة اضطراب نفسي عنده قد يصل إلى درجة يأسه من نفسه ومن حياته ومن أعماله. نسأل الله I أن يوفقنا وإياه وجميع المستمعين لما يُحب ويرضى. إنه سميعٌ قريب مُجيب. وبالله التوفيق.
المذيع: أخونا كغيره من السادة المستمعين يحمّلون بعض القضايا البعض الآخر، فأخونا -مثلاً- يُحمّل قوله -تعالى-:"إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ"[12]، يقول: طالما أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر فلماذا أقع في المنكر، وكذلك حديثه ﷺ: « من لم تنهَهُ صلاته فلا صلاة له ».
وكثير من الناس إذا أقدم على أمرٍ من الأمور صلّى صلاة الاستخارة، وحمّل صلاة الاستخارة كلّ المسؤوليات في دقيقتين لو تكرمتم حول هذا الموضوع.
الشيخ: بالنسبة للحديث والآية: إذا نظر إليهما الإنسان نظرة مُطلقة، ونظر إليهما نظرةً مُقيدة؛ فإن الحكم يختلف، ومسألة الإطلاق والتقييد قصدت بهما إذا نظر إليهما نظرةً مُطلقة مجردةً عن ردهما إلى النصوص الأخرى؛ وكذلك بالنظر إلى التقييد؛ يعني: ردهما إلى النصوص الأخرى، وأنا قد لاحظت ذلك في بداية الجواب، ولهذا ذكرت طبيعة الإنسان من الناحية البشرية، وذكرت مغفرة الله -جلّ وعلا- للعبد، وأشرت إلى بعض الأدلة؛ وكذلك بالنظر إلى فعل الإنسان للسبب، ثم ذكرت بعد ذلك ما يحصل من تعارضٍ بين ما يعمل الإنسان من جهة ما يُرضي الله ومن جهة ما يُغضبه.
فهذه أمورٌ أربعة ركزت عليها باختصار على حسب وقت البرنامج، وأنا قد راعيت في الإجابة ما يتعلق بالآية والحديث، ولكن على سبيل التنبيه إذا نظرنا إلى قوله -تعالى-: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، ليس معنى هذا أنها تجعل الإنسان في درجة العصمة، ولكنها تُحدث عنده يقظة وانتباهاُ، ويغلب عليه ترك المعاصي، لكن لا يصل إلى درجة العصمة؛ وكذلك في الحديث: « من لم تنهَهُ صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده إلا بعداً.
قد يكون الإنسان يصلي ولكن يُشرك بالله ويكفر ويأتي بالنفاق، وقد يصلّي ويشرك شركاً أصغر، وقد يصلّي ويفعل كبائر الذنوب، وقد يصلّي ويفعل صغائر الذنوب ويُصر عليها، وقد يُصلّي ويفعل صغائر الذنوب ولا يُصر عليها. وقد يصلّي ولكنه لا يفعل شيئاً من ذلك، فالناس درجات ولا شك أن الصلاة لها تأثير على الإنسان، ولكن ليس معنى هذا أن الإنسان لا يصلي إلا إذا كان معصوماً، فالآية والحديث كلّ منهما جارٍ على غالب الأحوال؛ يعني: إن الصلاة لها تأثير على الإنسان، وقد يكون التأثير كاملاً، وقد يكون التأثير غالباً، وقد يكون التأثير متوسطاً، وقد يكون التأثير ضعيفاً جداً. فبعض الناس يصلّي ولكنه يقترف أموراً عظيمة، فلا شك أن هذه الصلاة ليس لها تأثير كتأثيرها على الإنسان الذي لا يعمل مثل عمل هذا الرجل. وبالله التوفيق.
[2] لم أجد من خرجه بهذا اللفظ، وعند الطبراني في المعجم الكبير(11/54)، رقم (11025)، بلفظ: « من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً ».
[3] أخرجه الترمذي في سننه، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع(4/659)، رقم (2499)، وابن ماجه في سننه، كتاب الزهد، باب ذكر التوبة(2/1420)، رقم (4251).