معنى قوله تعالى:"وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ"
- التفسير
- 2021-09-22
- أضف للمفضلة
الفتوى رقم (1717) من المرسل ع.ع. م من ليبيا، يقول : مامعنى قول الحق -تبارك وتعالى- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:"وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ"[1]؟
الجواب:
الإنسان في هذه الحياة له فترةٌ معينةٌ يعيشها، وهذه الفترة بمنزلة الظرف، وهذا الظرف يحتاج إلى من يملؤه؛ قد يملؤه الشخص بالسيئات، وقد يملؤه بالحسنات، وقد يملؤه بالحسنات والسيئات، وقد تغلب الحسنات، وقد تغلب السيئات، وقد يتساوى الأمران؛ وهذه الأمور التي يقدّمها تكون في هذا الظرف، وكّلَ الله كتبة يكتبون ما يصدر من الشخص "وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)"[2]، وفي قوله تعالى:"مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ"[3].
فجميع ما يصدر من الإنسان مقيدٌ في صحائف أعمال، يقول -جلّ وعلا-:"وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)"[4]، ويقول -جلّ وعلا-:"لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا"[5] "إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا"[6].
فإذا كان العبد مكلّفاً ووجّهت إليه الأوامر والنواهي من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ ، وهو مأمور بامتثال الأوامر وبترك النواهي، وما يصدر منه محسوبٌ له ومحسوبٌ عليه.
فعلى الشخص أن يتعاهد نفسه من جهة أنه لا يقدم على قولٍ ولا على فعلٍ إلا إذا كان هذا القول مقرباً إلى الله -جلّ وعلا-؛ وكذلك بالنسبة لما ينفقه من الأموال؛ لأن الشخص قد ينفق الشيء ويكون مصحوباً بقصدٍ يحرمه من الأجر، فقد سأل رجلٌ عبد الله بن عمر م عن القرض فقال له t: « قرضٌ تريد به وجه الله فلك وجه الله، وقرضٌ تريد به وجه صاحبك فلك وجه صاحبك، وقرضٌ تريد به عرضاً من الدنيا فذلك الربا »، فالصورة واحدة وهي القرض؛ ولكن اختلف القصد، وبناءً على اختلاف القصد اختلف الحكم.
وعلى هذا الأساس: فعلى الشخص أن يجتهد في تحرير أعماله وأقواله وأمواله؛ يحررها ويخلّصها من الموانع التي تمنع اعتبارها في ظاهر الأمر؛ أما في باطن الأمر فالأمر راجعٌ إلى الله -جلّ وعلا-؛ ولكن إذا اجتهد المسلم وبذل طاقته؛ فإن الله -جلّ وعلا- يقول في محكم كتابه:"إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا"[7]، وعلى هذا الأساس فهذه الأمور إذا أتقنها وأحسنها وجدها عند الله؛ كما في هذه الآية "وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ"[8]، والتعبير بكلمة "من خير" مع تقدّم النفي فيه ناحية مهمة، وذلك أن كلمة "خير" نكرة في سياق النفي، وكلمة "من" جاءت قبل النكرة مؤكّدة لعموم هذه النكرة، والعموم الذي فيها منه أن الخير قد يكون كثيراً، وقد يكون قليلاً، وقد يكون متوسطاً، وقد يكون هذا الخير من الأقوال، وقد يكون من الأفعال، وقد يكون هذا الخير من اليد، أو بالسمع، أو بالبصر، أو بسعي القدم، أو باللسان، أو بغير ذلك من الوجوه؛ ولهذا نكّر كلمة "خير" وجعلها في سياق النفي، وجعلها مسبوقةً بــ"من" من أجل أن يؤكّد أن هذه الكلمة شاملة لكلّ خيرٍ كماً وكيفاً. ثم قال بعد ذلك: (تجدوه عند الله)؛ يعني: إن ما يصدر منكم من أعمال هي في مكانٍ أمين وفي موضعٍ أمين، « إن الله ليربّي حسنة عبده المؤمن كما يربّي أحدكم فلّوه » [9]، يقول -جلّ وعلا-:"مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا"[10]، ويقول -جلّ وعلا-:"مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ"[11]، فأنت تجد عملك، وتجد -أيضاً- أن هذا العمل مضاعف إلى ما شاء الله،"وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ"[12]؛ فعلى السائل وعلى المستمع الاجتهاد في تقديم الأعمال الصالحة "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ"[13] نسأل الله لنا ولجميع المسلمين ذلك. وبالله التوفيق.
[9] ينظر: صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب الصدقة من كسب طيب(2/108)، رقم (1410)، ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب (2/702)، رقم(1014).