السؤال عن الحكمة من مشروعية الصيام
- الصيام
- 2021-09-10
- أضف للمفضلة
الفتوى رقم (1507) من مرسل لم يذكر اسمه، يقول: ما الحكمة من مشروعية الصيام؟
الجواب:
من القواعد المقررة في الشريعة أنه إذا ورد الأمر من الله -جلّ وعلا-، أو ورد الأمر من الرسول ﷺ، وكان مقتضياً للوجوب؛ فذلك لأنه مشتملٌ على مصلحة محضة في بعض المواضع، وعلى مصلحة راجحة في بعض المواضع الأخرى، وكان ما فيه من المفسدة منزل منزلة عدم الوجود، ولهذا لم يعتبره الله -جلّ وعلا- في مجال الأمر، ولم يعتبره الرسول ﷺ في مجال الأمر أيضاً، وإذا ورد النهي في القرآن، أو ورد النهي في السنة، وكان مقتضياً للتحريم؛ فذلك إما لمفسدة محضة، وإما لمفسدة راجحة، وكان ما فيه من المصلحة المرجوحة منّزلٌ منزلة العدم؛ لأنه لم يعتبره الله -جلّ وعلا- في مجال النهي، وكذلك لم يعتبره الرسول ﷺ في مجال النهي.
وقد يكون هناك أمورٌ يَرِد عليها الأمر باعتبار، ويَرِد عليها النهي باعتبار آخر، ويتساوى فيها جانب المصلحة، وجانب المفسدة في نظر المجتهد، أو يكون هذا في باب الأمر فقط، أو في باب النهي فقط؛ ولكنه من جهة الواقع ليس هناك مصلحة مساوية للمفسدة؛ أما في نظر المجتهد فهذا ممكن في باب الأمر فقط، أو في باب النهي فقط، أو في الموضع الذي يَرِد عليه الأمر والنهي.
وبناءً على هذا الأصل في الشريعة فإن حكمة مشروعية الصيام مبنية على هذا الأصل، وقد بيّن الله -جلّ وعلا- قاعدة عامة في القرآن تتفرع عنها حِكَم مشروعية الصيام من وجوه مختلفة، وهذه القاعدة جاءت في آخر قوله -تعالى-:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"[1]، ولعل للتحقيق؛ يعني: أن التقوى تُحقّق إذا حقّق الإنسان صيامه على الوجه الذي شرعه الله -جلّ وعلا-، ومن الوجوه التي تتفرع عن هذه القاعدة من الحِكَم أن الصيام ينهى الإنسان عن ارتكاب المحرمات أثناء صيامه وبعد فطره، وهذا من التقوى في امتثال الإنسان لأمر الله -جلّ وعلا-، وامتثاله لنهيه، فهو لا يترك شيئاً من الواجبات، ولا يفعل شيئاً من المحرمات، فقد اتقى الله في حال صيامه وبعد فطره، اتقى الله في باب الأوامر، واتقاه في باب النواهي، فهذان وجهان.
ومن الوجوه -أيضاً- أن الشخص قد يكون مُفرِطاً فيما مضى من حياته، وقد يكون مُفرِّطاً.
فإذا كان مُفرِطاً، وكان إفراطه نشأ عنه ارتكاب شيء من المحرمات، أو فرَّط، وكان في تفريطه أنه ترك شيئاً من الواجبات، أو قصّر في شيءٍ منها؛ فإن الصيام يبعث في قلب الشخص شعوراً يجعله يعيد النظر فيما مضى من حياته، وما حصل منه من إفراط أو تفريط، فيجدد التوبة فيما بينه وبين ربه، والتوبة تجُبُّ ما قبلها، ورجوع الإنسان من طريق الخطأ إلى طريق الصواب في باب النواهي أو في باب الأوامر هذا من تقوى الله -جلّ وعلا-.
ومن الأمور التي تتفرع عن هذه القاعدة أن الصيام يبعث في نفس الإنسان حب الخير من جهة التزود من الأعمال الفاضلة؛ سواءٌ أكان ذلك من باب الأقوال، أو من باب الأفعال، أو كان من باب إنفاق الأموال من جهة التَّصدُّق بها، فهو يكثر من ذكر الله، ومن الاستغفار والتسبيح والتحميد وما إلى ذلك، ويكثر -أيضاً- من قراءة القرآن، ويكثر من فضائل الأعمال البدنية مثل الصلاة، ويكثر من الصدقات على إخوانه المحتاجين.
ومن الأمور التي تتفرع عن هذه القاعدة أن الصيام يُربِّي في نفس الإنسان صفة الأمانة؛ لأن الإنسان مؤتمن على صيامه لا يعلمه عنه إلا الله -جلّ وعلا-، وقد رتب الله أجراً عظيماً على صيام الإنسان إذا صام رمضان إيماناً واحتساباً، فينتقل من الأمانة في الصيام إلى الأمانة في سائر الأعمال التي تكون بين العبد وبين ربه، وتكون بين العبد وبين الناس، ويؤدي الأمور على الوجه الأكمل، وهذا من التقوى.
ومن الفروع المترتبة على ذلك -أيضاً- أن الصائم يكون قدوةً حسنة في أسرته، وقدوة حسنة في مجتمعه، وذلك أن بعض الأشخاص قد يُفطِر في بيته بمشاهدة زوجته وأولاده، يجرُهم هذا إلى أن يُفطِروا، وبهذا يكون قدوة سيئة، وإذا حافظ على صيامه على الوجه الأكمل بمشاهدة أولاده وزوجته صار قدوة حسنة لهم، يلتزمون بالصيام في الحاضر وفي المستقبل، ويكون -أيضاً- قدوة حسنة في المجتمع؛ لأن بعض الناس قد يُفطِر بمشاهدة بعض الأشخاص الذين يظن الثقة بهم، وبعد ذلك قد يجرُ ذلك إلى أن يتأثروا به فيُفطِروا؛ وبخاصة إذا كان له عليهم شيء من السُلطة بأي وجه من وجوه السلطة.
وإذا حافظ على صيامه على الوجه الأكمل، صار قدوة حسنة في مجتمعه الذي يعيش فيه، فالذين يشاهدونه قد يتأثرون به من ناحية المحافظة؛ وبخاصة الذين تكون بينه وبينهم علاقة كما سبق.
هذه حِكَم مصالح ومفاسد مدروءة، مصالح متحققة ومفاسد مدروءة؛ كلها مندرجة تحت قوله تعالى:"لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"[2].
وهناك بعض المصالح الأخرى التي تعود على الإنسان في بدنه من الناحية الصحية، قد يكون في الشخص شيء من الأمراض النفسية أو البدنية، ويكون الصيام سبباً في شفائها.
ومن الحكم -أيضاً- المترتبة على الصيام تعويد الشخص على النظام؛ لأن وقت الصيام محدد، ولهذا جاء تشريع الصيام على مراحل، وكلّ مرحلة حصل فيها الالتزام بدقة حتى جاء تشريع ما بعدها حتى استقر الأمر على ما هو عليه الآن، فقد كان بِدْء مشروعية صيام رمضان أن المطيق مخير بين الإطعام وبين الصيام، والصيام خير له، ثم بعد ذلك جاءت حتمية الصيام "فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ"[3]، ثم استمر الناس فترةً يصوم الإنسان من طلوع الفجر إلى أن يأتيه النوم، قد يأتيه النوم بعد الإفطار أو بعد صلاة العشاء، فيأكل بعد الإفطار حتى ينام، فإذا نام واستيقظ قبل الفجر لا يجوز له أن يأكل، فله الأكل بعد غروب الشمس إلى أن ينام، ثم بعد ذلك جاءت مشروعية الصيام من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ومشروعية الأكل من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، فالتزم الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- والتزم الصحابة في ذلك إلى يومنا هذا، فهذا يُعوِّد الإنسان على الناحية التنظيمية، لا بالنسبة لنفسه، ولا بالنسبة لمطالبته بتطبيق النواحي النظامية على الآخرين الذين يرتبطون به.
وبالجملة فالصيام له حِكَم عظيمة تعود على الفرد وعلى الأسرة وعلى المجتمع من ناحية جلب المصالح ودرء المفاسد، لا بالنسبة لحالة الإنسان في دنياه، ولا بالنسبة لحالته في آخرته. ولولا ضيق وقت البرنامج لوسَّعتُ الكلام، ولكن فيما سبق كفاية. وبالله التوفيق.