هل يوجد في القرآن آيات منسوخة؟ أم النسخ للشرائع فقط؟
- فتاوى
- 2021-12-13
- أضف للمفضلة
الفتوى رقم (3776) من مرسل لم يذكر اسمه، يقول: هل يوجد في القرآن الكريم آياتٌ منسوخة؟ وما معنى قول الله -عزوجل-: "مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا"[1]؛ لإني سمعت بعض الناس يقولون: إنه لا يوجد في القرآن آياتٌ منسوخة؛ وإنما المذكور في الآية نسخ الشرائع؛ إذ إن جميع الشرائع -كما يقول- نُسخت بشريعة محمدٍ ﷺ، فما توجيه فضيلة الشيخ عبد الله؟
الجواب:
الله -جلّ وعلا- أرسل الرسل لأممهم، وكلّ رسولٍ يرسل إلى قومه خاصةً، والرسول -صلوات الله وسلامه عليه- شريعته عامة للثقلين، للإنس وللجن، ولهذا يقول ﷺ: « بُعثت إلى الناس عامةً، وكلّ نبيٍ يبعث إلى قومه خاصةً ».
« ولما رأى الرسول ﷺ ورقة من التوراة في يد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: ما هذه يا ابن الخطاب؟ قال: هذه ورقةٌ من التوراة، قال: أفي شكٍ أنت يا ابن الخطاب؟ لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي ».
ومعلومٌ أن عيسى -عليه السلام- ينزل في آخر الزمان، ويحكم بشريعة محمدٍ ﷺ، وهذه الشريعة متفقةٌ مع الشرائع السابقة، فيما دلّ عليه قوله تعالى: "شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ"[2]. ونسخ الله -جلّ وعلا- بهذه الشريعة ما كان على بعض الأمم الماضية من الآصار، ومن الأغلال، وما إلى ذلك، كما جاء في آخر سورة البقرة: "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا"[3]، وفي ذلك يقول الله -جلّ وعلا-:« قد فعلت... »[4].
فحيث تقرر أن هذه الشريعة شريعةٌ عامةٌ للثقلين للإنس والجن، وأنه لا يجوز للإنسان أن يعتقد من الشرائع إلا ما اتفق مع هذه الشريعة.
أما ما جاءت به هذه الشريعة زائداً يجب عليه أن يأخذ به، وما نسخته هذه الشريعة من الشرائع السابقة، فواجبٌ عليه أن يتركه.
أما النسخ بالنظر إلى هذه الشريعة: فإن الله -سبحانه وتعالى- أنزل القرآن في ثلاثٍ وعشرين سنة، أنزله منجماً، منه ما يكون على حسب الوقائع التي تقع؛ بمعنى: يكون لها أسباب؛ كالأسئلة التي كان الرسول ﷺ يسأل عنها في القرآن، كما في قوله تعالى: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ"[5]، "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ"[6]، "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ"[7]، "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ"[8]، "يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ"[9]، إلى غير ذلك من الأسئلة التي وُجّهت لرسول ﷺ، وينزل جبريل -عليه السلام- للإجابة عليها.
وبما أن هذه الشريعة نزلت منجمة خلال هذه المدة، فإن الله -سبحانه وتعالى- من حكمته أنه تدرج في التشريع والنسخ، قد يكون نسخ الأخف للأثقل، وقد يكون نسخ الأثقل للأخف، وقد يكون نسخ المساوي للمساوي، وقد يكون النسخ إلى غير بدل، وكلّ ذلك جاء في القرآن، فلا حاجة إلى ضرب شيء من الأمثلة، ولكننا نُحيل السائل والمستمع إلى الكتب التي ألفت في هذا الاتجاه، ومن أحسن ما كتب في ذلك: كتاب الناسخ والمنسوخ لابن النحاس، فقد أعطى المقام حقه. وفيه كتبٌ كثيرة في ناسخ القرآن ومنسوخه بإمكان الإنسان أن يرجع إليها في فهارس المكتبات، وهي تكون تحت فهرس علوم القرآن؛ ولكن هذا الكتاب قد اشتمل على كثيرٍ جداً من الآيات الناسخة والآيات المنسوخة.
وأما هذا الشخص الذي قال: إنه لا يوجد في القرآن منسوخٌ، فلا شك أنه جاهلٌ.
ومن الواجب على الإنسان أن يتقي الله في نفسه، وألا يتخبّط في كتاب الله، ويتخبّط في سنة رسول الله ﷺ فيحلّل ويحرّم، وينفي ويثبت من غير بصيرةٍ؛ لأنه مسؤول عن الكلام الذي يقوله، فالله -جلّ وعلا- يقول: "فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)"[10]، فواجبٌ على الإنسان أن يتقي الله، فإذا سئل عن مسألةٍ وهو يعلم حكمها على بصيرةٍ من الأمر، فإنه يقول ما يعلم، وإلا فإنه لا ينشئ شيئاً من نفسه؛ لأنه مسؤول عن ذلك. وهذا الشخص الذي قال: إنه لا يوجد في القرآن منسوخ، قوله مخالفٌ لما أجمعت عليه الأمة من عهد الصحابة -رضي الله عنهم- إلى وقتنا هذا. والكتب المؤلفة في هذا المجال كثيرةٌ جداً. وبالله التوفيق.
[4] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان قوله تعالى: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه (1/116)، رقم(126).