حكم اختلاط الرجال بالنساء إذا أمنت الفتنة؟
- العموم
- 2022-01-29
- أضف للمفضلة
الفتوى رقم (9640) من مرسل لم يذكر اسمه، يقول: هل يجوز اختلاط الرجال بالنساء إذا أمنت الفتنة؟
الجواب:
هذا السؤال ورد إلى سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم في وقته، ونظراً لأن الجواب الذي أجاب به هو جواب مفصّلٌ رأيت أن أنقل جوابه بنصه، فقال -رحمه الله-: اختلاط الرجال بالنساء له ثلاث حالات:
الأولى: اختلاط النساء بمحارمهن من الرجال، وهذا لا إشكال في جوازه.
الثانية: اختلاط النساء بالأجانب لغرض الفساد، وهذا لا إشكال في تحريمه.
الثالث: اختلاط النساء بالأجانب في دور العلم والحوانيت والمكاتب والمستشفيات والحفلات ونحو ذلك، فهذا في الحقيقة قد يظن السائل في بادئ الأمر أنه لا يؤدي إلى افتتان كلّ واحدٍ من النوعين بالآخر، ولكشف حقيقة هذا القسم فإننا نجيب عنه من طريقٍ مجمل ومفصل.
أما المجمل فهو أن الله -تعالى- جبل الرجال على القوة والميل إلى النساء، وجبل النساء على الميل إلى الرجال مع وجود ضعف ولين، فإذا حصل الاختلاط نشأ عن ذلك آثار تؤدي إلى حصول الغرض السيئ؛ لأن النفس أمارة بالسوء، والهوى يعمي ويصم، والشيطان يأمر بالفحشاء والمنكر.
وأما المفصل فالشريعة مبنية على المقاصد ووسائلها، ووسائل المقصود الموصلة إليه لها حكمه، فالنساء مواضع قضاء وطر الرجال، وقد سد الشارع الأبواب المفضية إلى تعلق كلّ فرد من أفراد النوعين بالآخر، ويتجلى ذلك بما نسوقه لك من الأدلة من الكتاب والسنة؛ أما الأدلة من الكتاب فستة:
الدليل الأول: قال -تعالى-: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}[1].
ووجه الدلالة: أنه لما حصل اختلاط بين امرأة عزيز مصر وبين يوسف -عليه السلام- ظهر منها ما كان كامناً فطلبت منه أن يوافقها؛ ولكن أدركه الله برحمته فعصمه مناه، وذلك في قوله -تعالى-: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[2]، وكذلك إذا حصل اختلاط الرجال بالنساء اختار كلّ من النوعين من يهواه من النوع الآخر، وبذل بعد ذلك الوسائل للحصول عليه.
الدليل الثاني: أمر الله الرجال بغض البصر وأمر النساء بذلك، فقال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} الآية[3].
ووجه الدلالة من الآيتين: أنه أمر المؤمنين والمؤمنات بغض البصر، وأمره يقتضي الوجوب، ثم بيّن -تعالى- أن هذا أزكى وأطهر، ولم يعف الشارع إلا عن نظر الفجأة؛ فقد روى الحاكم في [المستدرك]، عن علي -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال له: « يا علي، لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة »، قال الحاكم بعد إخراجه: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه، وبمعناه عدة أحاديث.
وما أمر الله بغض البصر إلا لأن النظر إلى من يحرم النظر إليه زنا، فروى أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي ﷺ أنه قال: « العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطى » (متفق عليه، واللفظ لمسلم)[4]؛ وإنما كان زنا لأنه تمتع بالنظر إلى محاسن المرأة ومؤدٍّ إلى دخولها في قلب ناظرها فتعلق في قلبه فيسعى إلى إيقاع الفاحشة بها، فإذا نهى الشارع عن النظر إليها لما يؤدي إليه من المفسدة وهو حاصل في الاختلاط، فكذلك الاختلاط ينهى عنه؛ لأنه وسيلة إلى ما لا تحمد عقباه من التمتع بالنظر والسعي إلى ما هو أسوأ منه.
الدليل الثالث: الأدلة التي سبقت في أن المرأة عورة، ويجب عليها التستر في جميع بدنها؛ لأن كشف ذلك أو شيئاً منه يؤدي إلى النظر إليها، والنظر إليها يؤدي إلى تعلق القلب بها، ثم تبذل الأسباب للحصول عليها؛ وكذلك الاختلاط.
الدليل الرابع: قال -تعالى-: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ}[5].
ووجه الدلالة: أنه -تعالى- منع النساء من الضرب بالأرجل وإن كان جائزاً في نفسه؛ لئلا يكون سبباً إلى سمع الرجال صوت الخلخال فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن؛ وكذلك الاختلاط يمنع لما يؤدي إليه من الفساد.
الدليل الخامس: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[6] فسّرها ابن عباس وغيره: هو الرجل يدخل على أهل البيت بيتهم، ومنهم المرأة الحسناء وتمر به، فإذا غفلوا لحظها، فإذا فطنوا غض بصره عنها، فإذا غفلوا لحظ، فإذا فطنوا غض، وقد علم الله من قلبه أنه لو اطلع على فرجها وأنه لو قدر عليها لزنى بها.
ووجه الدلالة: أن الله -تعالى- وصف العين التي تسارق النظر إلى ما لا يحل النظر إليه من النساء بأنها خائنة؛ فكذلك بالاختلاط.
الدليل السادس: أنه أمرهن بالقرار في بيوتهن، قال -تعالى-: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}[7].
ووجه الدلالة: أن الله -تعالى- أمر أزواج رسول الله ﷺ الطاهرات المطهرات الطيبات بلزوم بيوتهن، وهذا الخطاب عام لغيرهن من نساء المسلمين، لما تقرر في علم الأصول: أن خطاب المواجهة يعم إلا ما دلّ الدليل على تخصيصه، وليس هناك دليل يدل على الخصوص، فإذا كن مأمورات بلزوم البيوت إلا إذا اقتضت الضرورة خروجهن فكيف يقال بجواز الاختلاط على نحو ما سبق؟! على أنه كثر في هذا الزمان طغيان النساء، وخلعهن حجاب الحياء، واستهتارهن بالتبرج والسفور عند الرجال الأجانب والتعري عندهم، وقلّ الوازع عمن أنيط به الأمر من أزواجهن وغيرهم.
وأما الأدلة من السنة فإننا نكتفي بذكر عشرة أدلة:
الأول: روى الإمام أحمد في [المسند] بسنده عن أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي م أنها جاءت النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله، إني أحب الصلاة معك، قال: « قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي »[8]، قال: فأمرت فبني لها مسجد في أقصى بيت من بيوتها وأظلمه، فكانت والله تصلّي فيه حتى ماتت. وروى ابن خزيمة في صحيحه[9]، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي ﷺ قال: « إن أحب صلاة المرأة إلى الله في أشد مكان من بيتها ظلمة ». وبمعنى هذين الحديثين عدة أحاديث تدل على أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد.
وجه الدلالة: أنه إذا شرع في حقها أن تصلّي في بيتها، وأنه أفضل حتى من الصلاة في مسجد الرسول ﷺ ومعه، فلأن يمنع الاختلاط من باب أولى.
الثاني: ما رواه مسلم والترمذي وغيرهما بأسانيدهم، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: « خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها » قال الترمذي بعد إخراجه: حديث صحيح.
ووجه الدلالة: أن الرسول ﷺ شرع للنساء إذا أتين إلى المسجد فإنهن ينفصلن عن الجماعة على حدة، ثم وصف أول صفوفهن بالشر والمؤخر منهن بالخيرية، وما ذلك إلا لبعد المتأخرات من الرجال عن مخالطتهم ورؤيتهم، وتعلق القلب بهم عند رؤية حركاتهم وسماع كلامهم. وذم أول صفوفهن لحصول عكس ذلك، ووصف آخر صفوف الرجال بالشر إذا كان معهم نساء في المسجد لفوات التقدم والقرب من الإمام وقربه من النساء اللائي يشغلن البال، وربما أفسدن عليه العبادة، وشوشن النية والخشوع، فإذا كان الشارع توقع حصول ذلك في مواطن العبادة مع أنه لم يحصل اختلاط فحصول ذلك إذا وقع اختلاطٌ من باب أولى، فيمنع الاختلاط من باب أولى.
الثالث: روى مسلم في صحيحه[10]، عن زينب زوجة عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قالت: قال لنا رسول الله ﷺ: « إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيباً ». وروى أبو داود في سننه[11]، والإمام أحمد[12] والشافعي[13] في مسنديهما بأسانيدهم، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: « لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، ولكن ليخرجن وهن تفلات ». قال ابن دقيق العيد: "فيه حرمة التطيب على مريدة الخروج إلى المسجد؛ لما فيه من تحريك داعية الرجال وشهوتهم، وربما يكون سبباً لتحريك شهوة المرأة أيضاً. قال: ويلحق بالطيب ما في معناه كحسن الملبس والحلي الذي يظهر أثره، والهيئة الفاخرة"، قال الحافظ بن حجر: "وكذلك الاختلاط بالرجال"، وقال الخطابي في [معالم السنن]: "التفل سوء الرائحة"، يقال: امرأة تفلة: إذا لم تتطيب، ونساء تفلات".
الرابع: روى أسامة بن زيد -رضي الله عنه- عن النبي ﷺ أنه قال: « ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء » (رواه البخاري ومسلم)[14].
ووجه الدلالة: أنه وصفهن بأنهن فتنة فكيف يجمع بين الفاتن والمفتون؟ هذا لا يجوز.
الخامس: عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي ﷺ أنه قال: « إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل في النساء » (رواه مسلم)[15].
ووجه الدلالة: أن النبي ﷺ أمر باتقاء النساء، وهو يقتضي الوجوب فكيف يحصل الامتثال مع الاختلاط؟! هذا لا يجوز.
السادس: روى أبو داود في [السنن][16]، والبخاري في [الكنى] بسننهما، عن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري، عن أبيه -رضي الله عنه- أنه سمع النبي ﷺ يقول وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق، فقال النبي ﷺ للنساء: « استأخرن؛ فإنه ليس لكن أن تتحققن الطريق، عليكن بحافَّات الطريق » فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها. هذا لفظ أبو داود، قال أبي الأثير في النهاية في غريب الحديث: استحققن الطريق هو أن يركبن حقها وهو وسطها.
ووجه الدلالة: أن رسول الله ﷺ إذا منعهن من الاختلاط في الطريق؛ لأنه يؤدي إلى الافتتان، فكيف يقال بجواز الاختلاط في غير ذلك؟!
السابع: روى أبو داود الطيالسي في سننه[17] وغيره، عن نافع عن ابن عمر م أن رسول الله ﷺ لَمّا بنى المسجد جعل باباً للنساء وقال: « لا يلج من هذا الباب من الرجال أحد ». وروى البخاري في [التاريخ الكبير][18] له عن ابن عمر م عن عمر -رضي الله عنه- عن النبي ﷺ قال: « لا تدخلوا المسجد من باب النساء ».
ووجه الدلالة: أن رسول الله ﷺ منع اختلاط الرجال والنساء في أبواب المساجد دخولاً وخروجاً، ومنع أصل اشتراكهما في أبواب المسجد؛ سدّاً لذريعة الاختلاط، فإذا منع الاختلاط في هذه الحالة فكيف ذلك من باب أولى.
الثامن: روى البخاري في صحيحه[19] عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: « كان رسول الله ﷺ إذا سلّم من صلاته قام النساء حين يقضي تسليمه، ومكث النبي ﷺ في مكانه يسيراً ». وفي رواية ثانية له: « كان يسلّم فتنصرف النساء فيدخلن بيوتهن من قبل أن ينصرف رسول الله ﷺ »[20]، وفي رواية ثالثة: « كن إذا سلّمن من المكتوبة قمن وثبت رسول الله ﷺ ومن صلّى معه من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله ﷺ قام الرجال »[21].
ووجه الدلالة: أنه منع الاختلاط بالفعل، وهذا فيه تنبيه على منع الاختلاط في غير هذا الموضع.
الدليل العاشر: روى الطبراني في [المعجم الكبير][22] عن معقل بن يسار -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: « لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير من أن يمس امرأة لا تحل له ». قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجاله رجال الصحيح. وقال المنذري في الترغيب والترهيب: رجاله ثقات. وروى الطبراني[23] من حديث أبي أمامة -رضي الله عنه- عن النبي ﷺ أنه قال: « لأن يزحم رجل خنـزيراً متلطخاً بطين وحمأة خير له من أن يزحم منكبه منكب امرأة لا تحل له ».
ووجه الدلالة من الحديثين: أنه ﷺ منع مماسة الرجل للمرأة بحائل وبدون حائل إذا لم يكن محرماً لها؛ لِمَا في ذلك من الأمر السيئ؛ وكذلك الاختلاط يمنع لذلك.
فمن تأمل ما ذكرناه من الأدلة تبين له أن القول بأن الاختلاط لا يؤدي إلى فتنة؛ إنما هو بحسب تصور بعض الأشخاص، وإلا فهو في الحقيقة يؤدي إلى فتنة، ولهذا منعه الشارع حسماً لمادة الفساد، ولا يدخل في ذلك ما تدعو إليه الضرورة وتشتد الحاجة إليه، ويكون في مواضع العبادة؛ كما يقع في الحرم المكي والحرم المدني. نسأل الله -تعالى- أن يهدي ضال المسلمين، وأن يزيد المهتدي منهم هدى، وأن يوفق ولاتهم لفعل الخيرات وترك المنكرات والأخذ على أيدي السفهاء، إنه سميع قريب مجيب. وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه، مفتي الديار السعودية: محمد بن إبراهيم -رحمه الله-.
[4] أخرجه البخاري في صحيحه،كتاب الاستئذان، باب زنا الجوارح دون الفرج(8/54)، رقم (6243)، ومسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب قدر على ابن آدم حظه من الزنا وغيره (4/2047)، رقم(2657).
[10] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة(1/328)، رقم(443).
[14] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، بباب ما يتقي من شؤم المرأة(7/8)، رقم (5096)، ومسلم في صحيحه، كتاب الرقاق، باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء(4/2097)، رقم(2740).
[15] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الرقاق، باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء (4/2098)، رقم(2742).
[21] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأذان، باب خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس (1/172)، رقم(866).