حكم تفسير البلاء على أنه عقوبة أو ابتلاء
- فتاوى
- 2021-06-12
- أضف للمفضلة
الفتوى رقم (122) من المرسل ع.م.ش، يقول: أنعم الله على سكان بلدة بنعم كثيرة إلا أن تلك النعم لم تقابل بالحمد والشكر لله، ومن المؤلم أن سكان تلك البلدة يجاهرون بالمعاصي والفساد، وبينما هم على تلك الحالة ظهر مرض خطير وتوغل داخل أكباد أغنامهم وأبقارهم حتى أخذها الموت جميعا، وفي العام نفسه ظهرت كوارث عديدة، منها السيول والفيضانات التي دمرت معظم المساكن، إلا أن العجيب في الأمر أن إمام المسجد في تلك البلدة صعد المنبر وخطب في الناس خطبة صلاة الجمعة، وبدأ يحلل في الموضوع المذكور، واستشهد بالآية الكريمة "الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)"[1]، والحديث النبوي « إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط »[2] إلا أن الإمام قد فاته ذكر الآية الكريمة "وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ"[3] فما رأي الشرع في قول هذا الإمام في مثل هذه الحالة؟ وهل نوع هذا الابتلاء سببه المعاصي أم تمحيص وامتحان ليتبين الصادقون من الكاذبين؟
الجواب:
الله -جل وعلا- هو المتصرف في خلقه لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون، والعباد لهم حالتان مع ربهم:
الحالة الأولى: أن يقيموا أمره على الوجه الذي يرضاه.
وفي هذه الحال قد يقع عليهم من الأمور التي يكرهونها، ويكون في هذا رفع درجات لمن صبر؛ أي ابتلاء وامتحان كما وقع لإبراهيم من الأمر بذبح ولده وهو فلذة كبده، وكما وقع للرسول ﷺ في بعض الغزوات، فإنه شج رأسه وكسرت رباعيته، وهو رسول من عند الله وهو أفضل الخلق، وهذه الأمور فيها امتحان من جهة، ورفع درجات من جهة، وكذلك النعم فيها ابتلاء وامتحان من جهة الشكر.
وأما الحالة الثانية: الذين خالفوا الله وسلكوا طريقاً ضالاً، والله -جل وعلا- ينعم عليهم في بداية الأمر ويوفر النعم لهم، فالمعاصي تصعد إلى الله ونعم الله تنزل عليهم، وهذا من باب الاستدراج، قال تعالى: "سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)"[4]، ويقول بعض السلف: إذا رأيت الله يعطي العبد وهو مقيم على معاصيه فاعلم أنما هو استدراج، فالشخص إذا كان مغرقاً في المعاصي والله يتابع عليه النعم فهذا استدراج من الله -جل وعلا- فيأخذه بغتة كما قال تعالى: "وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ" [5].
ولهذا يجب على العباد التنبه من هذه الناحية، وأن لا يغتروا بنعم الله عليهم وهم مقيمون بالمعاصي، ولا فرق بين ذكر وأنثى، وبين جميع أفراد الناس على اختلاف مستوياتهم، فكل شخص مسؤول عن نفسه وعمن ولاه الله عليه، إذ قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا "[6]، وقال النبي ﷺ: « كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته »[7].
ثم إن الذين يعملون المعاصي ويغدق الله عليهم بالنعم ثم ينزل عليهم بعد ذلك أنواع العذاب، تكون هذه عقوبة عاجلة، وقص الله في القرآن عن الأمم الماضية التي عتت عن أمر ربها، قال تعالى: "فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا " [8].
فالمقصود أن العباد إذا استمروا على معاصي الله -جل وعلا- والله يوالي عليهم النعم، ثم بعد ذلك ينزل عليهم العقاب، فهذا العقاب بسبب ذنوبهم، قال تعالى: "وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ" [9].
فالأمور التي تقع لا شك أنها من معاصي بني آدم، كما قال تعالى:"ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ "[10] ولكن هذا لا يعني أن الإنسان ييأس من رحمة الله -جل وعلا- وكذلك لا ينبغي له أن يغتر بما يصدر عنه من طاعة لله، قال رسول الله ﷺ: « لن يدخل أحداً عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته »[11]، وقال تعالى: "وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ "[12] فالمقصود يجب التنبه لهذا الأمر، وبالله التوفيق.
[2] أخرجه الترمذي في سننه، أبواب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء (4/601)، وابن ماجه في سننه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء(2/1338)، رقم(4031).
[7] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس، باب العبد راع في مال سيده ولا يعمل إلا بإذنه(3/120)، رقم(2409)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم(3/1459)، رقم(1829).
[11] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المرضى، باب تمني المريض الموت(7/121)، رقم (5673)، ومسلم في صحيحه، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى(4/2170)، رقم(2816).