معنى قوله تعالى:"أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ"
- التفسير
- 2021-09-23
- أضف للمفضلة
الفتوى رقم (1741) من مرسل لم يذكر اسمه، يقول: أرجو توضيح هذه الآية الكريمة من سورة آل عمران؛ والتي تقول بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:"أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ"[1]، أريد توضيح معنى قوله تعالى:"أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا"[2]؛ مع العلم بأن أكثر سكان الأرض غير مسلمين؛ بل وأكثرهم لا يعترف بالإسلام.
الجواب:
هذه الآية ذكرها الله -جلّ وعلا- وبيّن فيها أن الشخص يعدل عن حكم الله -جلّ وعلا-، ويُقصد بحكم الله -جلّ وعلا- -هنا- الحكم الشرعي؛ لأن الأحكام منها ما هو من عند الله -جلّ وعلا-، ومنها ما يكون من الخلق؛ فجميع القوانين الموجودة -الآن- على وجه الأرض المخالفة لشرع الله -جلّ وعلا-؛ كلّها داخلةٌ في هذه الآية، أفغير دين الله يبغون، فهؤلاء لم يأخذوا بدين الله -جلّ وعلا- في مجال التشريع، وقد لا يأخذون في دين الله -جل وعلا- في مجال التوحيد والإيمان.
فالله -جلّ وعلا- يذمهم هنا، ويبين أن هؤلاء يسلكون مسلكاً ضالاً في عقيدتهم، وفي تحليلهم وتحريمهم، يقول الله -جلّ وعلا-:"اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ"[3].
سمع عدي بن حاتمٍ الرسول ﷺ يقرأ هذه الآية فقال: يا رسول الله، لسنا نعبدهم، قال: « أليس يحرّمون ما أحلّ الله فتحرّمونه، ويحلّون ما حرّم الله فتستحلّونه؟ »قال: بلى، قال: « فتلك عبادتهم »[4].
فالله بيّن في هذه الآية أن هؤلاء ضالون عن طريق الهدى، أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ ثم بعد ذلك بيّن كمال قدرته، وبيّن عجز هؤلاء الذين يسلكون هذا المسلك، فقال: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا؛ الإسلام استسلام لله -جلّ وعلا- من جهة اتباع شريعته، واستسلامٌ لله -جلّ وعلا- من جهة قهره ونفوذ سلطانه؛ كما في قوله تعالى:"إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا"[5].
فالعبودية عبوديةٌ شرعيةٌ، وعبوديةٌ قهريةٌ كونية.
فالعبودية الشرعية هذه متمثلةٌ فيمن أطاع الله -جلّ وعلا-؛ أما من عصاه وتنكّب عن الطريق السوي؛ فهذا هو في قبضة الله -جلّ وعلا-، وهو مُطالبٌ بتنفيذ الأوامر وباجتناب النواهي إذا كانت قد بلغته الدعوة، فالله -جلّ وعلا- يبيّن في هذه الجملة أن جميع الإنس والجنّ والملائكة وجميع الكائنات الأخرى؛ جميع هذه الأمور مستسلمةٌ لله -جلّ وعلا- شاءت أم أبت؛ لأن سلطانه وقهره وجبروته محيطٌ بهم؛ كما قال تعالى:"هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ"[6].
إذا نظرنا إلى الذين يسنون القوانين الوضعية وجدنا المخالفة لدين الله، وجدنا أنهم يتصفون بالعجز الكامل، وأنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا يملكون موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، ولا يملكون -أيضاً- لغيرهم نفعاً ولا ضراء، فشخصٌ لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا يملك لغيره أيضاً، يسن القوانين، ويأمر بتنفيذها، ويجد من يطيعه في ذلك،كيف يقدم هذا على من يملك هذا الكون، ويتصرف فيه كيف يشاء؛ "لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ"[7].
لا شك أن الشخص الذي يوجد عنده هذا التصرف، منحرفٌ عن الصراط المستقيم؛ سواءٌ أكان واضعاً للقوانين وآمراً بتنفيذها، أو كان منفذا ًلها من الأشخاص الذين يجلسون للحكم بين الناس في هذه، يستمدون حكمهم من هذه القوانين.
وكذلك الأشخاص الذين يتحاكمون إلى هذه القوانين، محتاجون في أنفسهم إلى أنهم لا يلجؤون إلى هذه القوانين؛ بل عليهم أن يتحاكموا إلى شريعة الله -جلّ وعلا-، وعليهم -أيضاً- أن يتمسكوا بدين الله -جلّ وعلا-؛ لا من جهة العقيدة، ولا من جهة الشريعة "أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ"[8]، في آخر الآية بيّن الله -جلّ وعلا - أن الحاكم بغير ما أنزل الله، وأن واضع القوانين المخالفة لأوامر الله؛ هؤلاء يرجعون إلى الله -جلّ وعلا -، وأن الذين يتبعون هؤلاء -أيضاً- يرجعون إلى الله -جلّ وعلا-؛ وكذلك المستقيمون على أمر الله -جلّ وعلا- هم راجعون إلى الله يوم القيامة.
وهذا تنبيهٌ على أمر عظيم، وهذا الأمر العظيم هو:كما أنه قاهرٌ ومالكٌ ومتصرف ٌفي هذه الحياة، فهو -أيضاً- قاهرٌ ومتصرفٌ في الحياة الأخرى التي هي الآخرة، فمالك الأمر في الدنيا والآخرة هو الذي وضع الدين عقيدةً وشريعةً بالكتب التي أنزلها على عباده، وأرسل الرسل يبيّنونها، وبيّنها الرسل وآخرهم محمدٌ ﷺ ، والقرآن آخر الكتب، فرسالة الرسول ﷺ عامة، والقرآن عام؛ يقول الله -جلّ وعلا-:"وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا"[9] ويقول -جلّ وعلا-:"تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا"[10].
فالمقصود أنه يجب على الناس أن يتنبهوا إلى ما دلت عليه هذه الآية، وهكذا جميع ما جاء في شريعة الله -جلّ وعلا- من الأوامر والنواهي؛ عليهم أن يتنبّهوا لأنفسهم ما داموا في زمن المهلة، وإذا فات الأوان فحينئذٍ لا ينفع الندم. وبالله التوفيق.