Loader
منذ سنتين

تفسير سورة العصر


الفتوى رقم (2829) من المرسل م. د. هـ، من جدة، تقول: أرجو تفسير الآية التالية: "وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) "[1].

الجواب:

هذه السورة سورةٌ عظيمة وقد صدّرها الله -جلّ وعلا- بالقسم في قوله: "وَالْعَصْرِ"[2]، وهذا إقسامٌ من الله -جلّ وعلا، ولله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، وقد جاء هذا في القرآن في مثل قوله تعالى: "وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا"[3]، "وَالطُّورِ"[4]، "وَالنَّازِعَاتِ"[5]، "وَالْمُرْسَلَاتِ"[6] إلى غير ذلك من المواضع التي جاء القسم من الله -جلّ وعلا- بها.

وأقسم الله -جلّ وعلا- بالعصر؛ لأن العصر هو الدهر، وهو يعتبر ظرفاً للأعمال التي يعملها بنو آدم، فإن الزمن ظرف، والعمل مظروف، فالوقت له أهمية عظيمة؛ إما أن يعود على الإنسان بالضر، وذلك إذا استغلّه في أمور ليست بمشروعة، وجعله ظرفاً لهذه الأمور؛ مثل: الناس الذين يشتغلون بالزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وأكل الحرام، ويشغلون أوقاتهم فيما حرّم الله -جلّ وعلا-. فهم قد أساؤوا فيما وضعوه في هذا الظرف. وإذا حافظوا على الصلوات، وحافظوا على فعل الأوامر واجتناب النواهي، فحينئذٍ يكونون قد وضعوا في هذا الظرف ما يحمدون عقباه عند لقائهم لله-جلّ وعلا-. فالمهم أن القسم بالعصر له أهمية عظيمة.

ثم إن الله -جلّ وعلا- بعدما أقسم بهذا القسم أتى بالمُقسم عليه فقال: "إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ"[7] والإنسان هذا عام للإنس وللجن، للذكر وللأنثى، للحر وللعبد، للصحيح وللمريض، للحاكم وللمحكوم، للراعي ولفرد الرعية، للزوج وزوجته، للولد ووالده، للأخ وأخته؛ بمعنى: إنه لا يخرج عنه أحد من المكلّفين. وليس هذا خاصاً بالمؤمنين؛ بل هو عام، ولهذا بيّن الله -جلّ وعلا- من يكون رابحاً، فقال: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ؛ يعني: فيه خسارة دنيوية، وخسارة أخروية. فالخسارة الدنيوية في أنه لا يوفّق للخير؛ بل يستعمل أوقاته فيما حرّم الله -جلّ وعلا-، فمثلاً في باب المعاملات يشتغل بالمعاملات الربوية، وفي باب العبادات: لا يصوم، ولا يصلّي، ولا يزكّي، ولا يحج. وفي باب العقائد يكون من عبّاد القبور: يذبح لغير الله، ينذر لغير الله، يتوسل بغير الله، فحينئذٍ يكون خسر خسارةً دنيوية.

والخسارة الأخروية: كونه يحرم من الجنة، ويكون في النار، وهذه لا شك خسارةٌ عظيمةٌ جداً.

إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا هؤلاء استثنوا من الإنسان: الذين آمنوا، وصدّقوا بقلوبهم، ونطقوا بألسنتهم، وعملوا بجوارحهم. فالإيمان هو تصديقٌ بالجنان، ونطقٌ باللسان، وعملٌ بالأركان. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ العمل الصالح يعمله الإنسان، فالعمل الصالح في امتثال أمر الله -جلّ وعلا-؛ سواءٌ كان على سبيل الوجوب، أو كان على سبيل الندب. وكذلك ترك ما حرّم الله -جلّ وعلا-، يرجو ثواب الله، ويخشى عقابه. فهو عمل عملاً صالحاً في امتثال الأمر، وعمل عملاً صالحاً في تركه لما حرّم الله -جلّ وعلا-.

ولهذا قال: "وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ"[8]؛ لأن الإنسان قد يعمل عملاً ولا يكون صالحاً، والعمل الصالح هو ما ابتغي به وجه الله لا يشركه فيه أحد، ولهذا يقول الله -جلّ وعلا- في الحديث القدسي: « أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غير يتركته وشركه ». فلا بدّ أن يكون العمل خالصاً لوجه الله. ولا بدّ أن يكون العمل على وفق شرع الله -جلّ وعلا-؛ يعني: يكون متابعاً لما جاء عن الرسول ﷺ. فالإخلاص والمتابعة شرطان لا بدّ منهما في العمل، ولهذا جاء في القرآن في قوله تعالى: "وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ"[9]، ففي قوله "يُسلم" هذا من جهة الإخلاص، وفي قوله: "وَهُوَ مُحْسِنٌ" هذا من جهة المتابعة.

وكذلك قوله تعالى: "بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ"، وقوله تعالى: "فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا"[10].

فالمقصود أن اشتراط الإخلاص والمتابعة جاء في القرآن في عدة مواضع. فلا يكون العمل صالحاً إلا إذا توفر فيه هذان الشرطان: "إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ"[11]، فالإنسان تكون له علاقة فيما بينه وبين الناس الآخرين، يحب لهم ما يحب لنفسه. ويكره لهم ما يكره لنفسه، يحب لهم الخير، وينبههم عليه. ويكره الشرّ، وينبههم عليه، فهذا من التواصي بالحق.

"وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ"؛ يعني: من ناحية أن الإنسان قد يبتلى بأمور تحتاج إلى صبرٍ؛ إما بالصبر على أقدار الله -جلّ وعلا-، أو الصبر عن معاصي الله -جلّ وعلا-. فإذا قدّر الله عليه أمراً من الأمور، فإنه يصبر ويحتسب؛ مثل: الأمراض التي يصاب بها الإنسان، أو الفقر، أو موت الأولاد، وما إلى ذلك، فهذا يعتبر من المصائب التي يصاب بها الإنسان، ويحتاج إلى أن يصبر عليها؛ وكذلك الصبر عن معاصي الله –جلّ وعلا-، فيحبس نفسه عما حرّم الله -جل وعلا-يرجو بذلك ثواب الله -جلّ وعلا-.

ويصبر على طاعة الله-جلّ وعلا-؛ لأن النفس تحتاج إلى جهادٍ في باب الأوامر من ناحية ملازمة اتباعها، وفي باب النواهي من ناحية ملازمة تركها. فهذا من التواصي بالصبر. فالإنسان يحمل نفسه على الصبر إذا كان في باب أقدار الله، فيصبر على طاعة الله، وعلى ترك معصية الله، وبنفس الطريقة يدعو الناس للصبر على هذه الأمور، رجاء ثواب الله-جلّ وعلا-، وخوفاً من عقابه.

فهذه أمورٌ التي هي؛ الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالصبر؛ هذه أمورٌ مهمة ينبغي للإنسان أن يتنبه لها، وهي خطوطٌ رئيسيةٌ لمسار الإنسان في هذه الحياة الدنيا. فإذا لازم هذه الأمور فقد سار على طريقٍ مستقيم، وإذا خرج عنها فقد خرج عن الصراط المستقيم. وبالله التوفيق.



[1] الآيات (1-3) من سورة العصر.

[2] الآية (1) من سورة العصر.

[3] الآية (1) من سورة الذاريات.

[4] الآية (1) من سورة الطور.

[5] من الآية (1) من سورة النازعات.

[6] من الآية (1) من سورة المرسلات.

[7] من الآية (2) من سورة العصر.

[8] وردت في أكثر من موضع من القرآن الكريم وأول ورودها في الآية (25) من سورة البقرة.

[9] من الآية (22) من سورة لقمان.

[10] من الآية (110) من سورة الكهف.

[11] من الآية (3) من سورة العصر.