تفسير قوله -تعالى-: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ؟
- التفسير
- 2021-07-09
- أضف للمفضلة
الفتوى رقم (5440) من المرسل أ. ف، من ليبيا -بنغازي، يقول: ما تفسير قوله -تعالى-: "قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ "[1]؟
الجواب:
هذه الآية فيها بيان أمورٍ أذكر جملةً منها؛ لأن وقت البرنامج لا يتسع للكلام عليها كلاماً مفصلاً. فقوله تعالى: "قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا "[2] هذه الجملة فيها بيان النهي عن الشرك، وقوله -تعالى-: (شيئاً) هذا عامٌ في جميع المخلوقات، فلا يجوز أن يجعل مع الله شريك من خلقه، ولا فرق في ذلك بين أن يكون المشرَك به من بني آدم أو من غيرهم فكلمة (شيئاً) نكرة في سياق النهي، والنكرة في سياق النهي تكون عامة.
وعلى هذا الأساس ينبغي النظر في كثرة وقوع الشرك في كثير من البلدان، وأن هذا الواقع لا يجوز لنهي الله عنه. وقوله: (لا تشركوا)، هذا فيه
-أيضاً- نهي يكون المنهي عنه عاماً في الشرك الأكبر وفي الشرك الأصغر. والشرك الأكبر منافٍ لأصل التوحيد، والشرك الأصغر منافٍ لكمال التوحيد. ومفهوم المخالفة لذلك هو الأمر بالتوحيد، فتكون هذه الآية فيها الأمر بتوحيد الله بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله: توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات. وفيها نهي عن الشرك: قليله وكثيره، صغيره وكبيره، والنهي عن وسائله؛ لأن الوسائل لها حكم الغايات، وأن المخلوقات في ذلك سواء؛ يعني: لا يجوز أن يشرك مع الله أحدٌ من مخلوقاته؛ فعلى العبد أن يتنبه لهذه الوصية العظيمة: "قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا"[3] هذه الجملة وصية من الله -جلّ وعلا- بالإحسان إلى الوالدين. والإحسان إلى الوالدين يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والأشخاص؛ ولا مانع من الإحسان إلى الوالدين وإن كانا مشركين؛ فالإحسان إلى الوالدين يكون بالقول، ويكون بالفعل، ويكون بالمال، ويكون بكف الأذى عنهم، ويكون بنصرتهم في الوقت الذي يحتاجون إليه؛ ولهذا قال -تعالى- في موضع آخر: "وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)"[4]؛ فعلى العبد أن يتنبه إلى هذه الوصية العظيمة، وأن تكون علاقته مع والديه علاقة ترضي الله، وأن يتجنب جميع العلاقات التي تسخط الله -جلّ وعلا-: "وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا"[5]،"وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ"[6]؛ هذا فيه التنبيه على النهي عن قتل الأولاد كما كانوا يفعلون في الجاهلية، فإنهم كانوا يأدون البنات خشية العار، وكانوا يأدون الأولاد خشية الإنفاق عليهم، ولا يجوز للإنسان أن يفعل هذا الفعل. وفيه ظاهرة موجودة لها علاقة بهذا تكون موجودة في كثيرٍ من المجالات، ولا حاجة لذكر الأمثلة؛ لكن كلها تجتمع في إسقاط الجنين؛ سواءٌ كان ذلك قبل نفخ الروح فيه، أو كان ذلك بعد نفخ الروح فيه. وقد يكون هذا من الأم، وقد يكون من الأب، وقد يكون من جهة أخرى. ومن المعلوم أن الأصل في ذلك هو عدم الجواز؛ فلا يجوز إلا إذا حصل تقرير طبي من ثلاثة أطباء هذا إذا كان قبل نفخ الروح؛ أما بعد نفخ الروح فإن هذا لا يجوز.
وبهذا يتبين أن كثيراً من الذين يقدمون على إسقاط الأولاد يتنبهون إلى أنهم يبوؤون بهذا الإثم إلا في الأمور التي يعذرهم الله -جلّ وعلا- فيها: "وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ"[7] الله -جلّ وعلا- هو الذي تكفل برزق خلقه، والأب ما عليه إلا الأسباب التي يتمكن بها؛ وهكذا الأم، "وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ"[8]. الفواحش: جميع ما نهى الله -جلّ وعلا- عنه فهو فاحشة؛ مثل: الزنا والسرقة وما إلى ذلك، وهكذا بالنظر إلى ترك الواجبات، فترك الواجبات منهيٌ عنه على وجه التحريم، ويكون ذلك من الفواحش، فقوله: "وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا"[9]؛ يعني: ما كان مسموعاً وما كان مرئياً يشاهده الناس أو يسمعه الناس، "مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ"[10] قد تكون الفواحش في قلب الإنسان، أو تكون فواحش يتخفى فيها؛ أي: يفعلها من حيث لا يراه أحد؛ ولهذا أثنى الله -جلّ وعلا- على الذين يخشون ربهم بالغيب فقال: "إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ"[11]؛ فالإنسان إذا خلا في مكان وليس عنده إلا الله، واستطاع أن يفعل معصية أو أن يترك واجباً؛ ولكنه علم أن الله رقيبٌ عليه، وأنه شاهد عليه؛ فإنه يقلع عن ترك هذا الواجب، ويقلع عن فعل المحرم، فيفعل الواجب ويترك هذا المحرم، ويكون شديد المراقبة لله -جلّ وعلا-: "وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ"[12] هذا فيه تنبيه على أنه لا يجوز التعدي على قتل النفس؛ وكذلك التعدي على النفس بقطع جزءٍ أو بتفويت منفعةٍ من منافعها، لا يجوز للإنسان أن يقدم إلا بالحق الذي شرعه الله -جلّ وعلا- مثل مشروعية القصاص: "وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ"[13] ختم هذه الوصايا بهذه الجملة، وعلل ذلك بقوله: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ فهذه الوصايا تحتاج إلى تعقل من جهة تصورها، وإلى إحكامٍ لها من ناحية أدائها. ثم قال -تعالى-: "وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ"[14]، هذه وصية أخرى وهي أن الشخص إذا تولى مال اليتيم فإنه يعامل مال هذا اليتيم كما يعامل ماله، ولا فرق في ذلك بين أن يتعامل بمال هذا اليتيم مع نفسه، أو أن يتعامل بمال هذا اليتيم مع الناس. وإذا تعامل بمال هذا اليتيم مع نفسه فإنه يسلك فيه مسلك العدل، وإذا تعامل فيه مع الناس فإنه يسلك فيه -أيضاً- مسلك العدل، ولا يكون من ضمن من ذكر الله فيهم: "وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)"[15]، ثم أنه -جلّ وعلا- حدد غاية فقال: حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ؛ يعني: إن هذا الولي يقوم بهذه الولاية الشرعية حتى يكون اليتيم صالحاً لتحمل هذه الوصية.
ثم ذكر الله -تعالى- وصية أخرى وهي قوله -تعالى-: "وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا"[16]؛ فهذه وصية أخرى فيها بيان أن الشخص إذا كان يتيماً، أو كان يزن فإنه يزن بالعدل ولا يكيل لنفسه غير ما يكيل للناس، ولا يكيل للناس -أيضاً- غير ما يكيل لنفسه، فإنه يعمل للناس كما يعمل لنفسه.
وهذا فيه تنبيهٌ على أن الشخص يكون في تصرفاته ميزان عدلٍ في أقواله وفي أعماله، وهذا ينبه على أن كثيراً من الناس الذين يبيعون البضائع يزيدون في أثمانها زيادة ليست في الحقيقة بمعقولة، فإذا كانت قيمتها عشرة ريالات يبيعها بمائة ريال، ويقول: أنا حر في مالي. وهذا فيه تغرير بالنسبة للمرأة، وبالنسبة للصبي، وبالنسبة للأجنبي؛ أما الذي يعرف السوق والسلع فإنه يدافع عن نفسه. فالواجب على الإنسان أن يكون ميزان عدلٍ في ماله، وميزان عدل فيما عليه. ثم قال -تعالى-: "لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا"[17] هذا فيه تنبيه على أن الإنسان لا يُكلف إلا بما يطيقه؛ وأما ما كان خارجاً عن طاقته فإنه لا يكلف بذلك كما لو حصل إكراه أو خطأ أو نسيان أو ما إلى ذلك؛ فهذا خارجٌ عن طاقة هذا الشخص، ويعذره الله في بعض الأمور. وفي بعضها قد لا يكون معذوراً، ولا يتسع البرنامج إلى تفصيل ما يتعلق بهذه الآية. ثم قال -تعالى-: "وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا"[18] هذه وصية أخرى وفيها بيان أن الإنسان إذا تكلم فإنه لا يسلك مسلك التفريط، ولا يسلك مسلك الإفراط في قوله، فقد يقول في نفسه هو، وقد يقول في غيره. فإن قال في نفسه أو قال في غيره فإنه يسلك مسلك العدل، وهذا الغير قد يكون بعيداً عنه، وقد يكون قريباً من أقاربه: والده، أو أمه، أو أخوه، أو ولده، أو ما إلى ذلك، ولهذا قال -تعالى-: "وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى"[19]، وتنبيه الله -جلّ وعلا- بقوله: وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى هذا التنبيه فيه تنبيهٌ للشخص لأن القرابة قد يكون لها شبهة في أن الشخص يحيف معها، ولهذا قال -تعالى-: وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى. ثم قال -تعالى- بعد ذلك: "وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا"[20] هذه الوصايا عهود بين الله وبين خلقه؛ وكذلك العهود التي يبرمها الإنسان فيما بينه وبين ربه، أو عهودٌ فيما بينه وبين خلقه فإنه مأمورٌ بالوفاء بذلك.
ثم قال -تعالى-: "ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ"[21] فختم هذه الآية ببيان أن هذه جملة من الوصايا، ونبّه بهذه على أن المخاطبين بها لعل هذا يكون فيه تذكيراً وتنبيهاً لهم.
وعلى المسلم أن يكثر من تلاوة القرآن ويكثر تدبره فإن فيه فوائد عظيمة، فوائد يستفيدها الإنسان في حياته العاجلة، ويستفيدها في حياته الآجلة، وتكون مقصورةٌ عليه من جهة، ويكون نفعها متعدياً من جهةٍ أخرى، ولا يتسع المقام لأكثر من ذلك. وبالله التوفيق.