Loader
منذ سنتين

ذكر ابن القيم (أن النصوص الشرعية لم تترك شيئاً إلا ذكرته)، هل مقتضى هذا أنه يمكن لطالب بعض العلوم الشرعية ألا يتمكن في أصول الفقه؟


الفتوى رقم (11701) من المرسل السابق، يقول: ذكر ابن القيم -رحمه الله- كلاماً معناه: (أن النصوص الشرعية لم تترك شيئاً إلا ذكرته)، هل مقتضى هذا الكلام أنه يمكن لطالب بعض العلوم الشرعية ألا يتمكن في أصول الفقه؟

الجواب:

من خصائص هذه الشريعة أنها عامة، ومعنى عمومها دخول سائر المكلفين من جهة خطاب التكليف؛ وكذلك من جهة خطاب الوضع.

أما بالنظر للمجانين والصغار فإنهم يدخلون على سبيل خطاب الوضع لا على سبيل خطاب التكليف. وعمومها -أيضاً- من جهة البشر عموماً ؛ وكذلك الجن فإنهم مكلفون: مؤمنهم في الجنة، وكافرهم في النار.

وجاءت أدلة كثيرة دالة على ذلك، فمن ذلك قوله -جل وعلا-: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}[1] وقال -جل وعلا-: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[2]. قال -جل وعلا-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}[3]. والرسول ﷺ ذكر أنه لا يسمع به يهوديٌ ولا نصرانيٌ ثم لا يؤمن به إلا دخل النار وقال -جل وعلا-: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ}[4]، فلا شك أن هذه الشريعة شريعة عامة.

        أما بالنظر إلى الخاصية الثانية وهي أنها كاملة؛ بمعنى: إن جميع ما يحتاج إليها الناس في أمور دينهم، وفي أمور دنياهم، وفي أمور آخرتهم أنها مشتملة عليها؛ كقول الله -جل وعلا-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[5]. فوصف الله -جل وعلا- لهذا هذا الدين بأنه أكمل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا، فلا شك أنه مشتمل على جميع ما يحتاج إليه الناس؛ ولكن الشأن في ذلك هو فهم مراد الله -جل وعلا- من كتابه، وفهم مراد رسوله ﷺ وهذا إنما يكون في قوله ﷺ: « نحن معاشر الأنبياء لا نورث ». والذي ورثّه الرسول ﷺ هو العلم. والعلماء هم ورثة الأنبياء، فإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورثوا العلم. هذا الميراث يحتاج إلى رجال يعلمون منه مراد الله -جل وعلا-، ومراد رسوله ﷺ وذلك بتعلم الوسائل التي تُساعد على فهمه؛ لأنه لا يمكن أن يفهمه الشخص وهو لم يستخدم هذه الوسائل، فمن وسائل فهمه اللغة العربية من جهة وضعها واستعمالها وتصريفها واشتقاقها؛ وكذلك من جهة علم النحو وعلم البلاغة، فلابد من معرفة هذه العلوم وهي مشتركة بين القرآن وبين السنة؛ وكذلك لابد من معرفة ما يتعلق برسم القرآن، وعلم القراءات، وعلوم القرآن عامة من جهة معرفة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ، وغير ذلك من علوم القرآن؛ وكذلك بالنسبة لعلوم السنة من جهة معرفة مصطلح الحديث، ومعرفة أحاديث الأحكام التي تُفسر القرآن، وكذلك معرفة ما يتعلق بالقرآن من التاريخ ومن القصص وما إلى ذلك؛ وكذلك أصول الفقه؛ لأن أصول الفقه هو الميزان الذي يُوزن به الاستنباط من القرآن والسنة؛ سواء كان هذا الاستنباط من جهة الأحكام، أو كان هذا الاستنباط من جهة المسائل التي ترد عليها الأحكام؛ وكذلك استنباط من يدخل في هذه الأدلة، وما يدخل فيها، فكلمة (من يدخل) يعني: من وجّه إليه الخطاب. وكلمة (ما يدخل)؛ يعني: المسائل التي يدل عليها الدليل من كتاب أو سنة؛ وكذلك معرفة علل الأحكام، وكذلك معرفة مقاصد الشريعة من أجل أن يقف الإنسان على حكمة التشريع في المواضع التي يُمكن أن تستنبط منها حكمة التشريع، أو أن حكمة التشريع منصوصة. ويعرف -أيضًا- من السنة الأحاديث الأحكام التي تُفسر. وإن شئت أن تقول: من السنة تفسيرًا للقرآن.

فعلى سبيل المثال عندما يقرأ آيات الصلاة من القرآن يرجع إلى أحاديث الصلاة من السنة، وعندما يقرأ آيات الطلاق يرجع إلى أحاديث الطلاق فإنها مفسرة لها. وأيضًا يرجع إلى كلام المفسرين وإلى كلام المحدثين. وفيه أمور كثيرة لابد منها؛ مثل: معرفة أسباب الاختلاف بين العلماء، ومعرفة مناهج العلماء في مناقشة الأدلة من القرآن والسنة وغير ذلك.

والمقصود هو أن الشخص لابد أن يؤهل نفسه تأهيلاً كافيًا حتى يكون صالحًا للبحث عن مراد الله من كتابه، وعن مراد رسول الله ﷺ من سنته؛ أما كون الإنسان يتعلم قليلاً من العلم ثم ينصب نفسه مجتهدًا اجتهادًا مطلقًا وقد فقد كثيرًا من عناصر العلم التي لابد من وجودها فيه، فهذا يجب عليه أن يعرف نفسه ويعرف مقدار العلم التي تحصّل عليه والله -سبحانه وتعالى- يقول لنبي ﷺ: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[6]، ويقول -جل وعلا-: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)}[7]، ويقول الله -تعالى-: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}[8] إلى أن قال {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[9]، فلا شك أن الشخص عندما يتكلم بحكم من الأحكام على مسألة من المسائل فإن الملك سيكتب هذه المسألة، وسيكتب جوابه عنها، وسيسأله الله -سبحانه وتعالى- يوم القيامة عن المستند الذي استند عليه في هذه الإجابة؛ فإذا كانت الإجابة مستندة على دليل شرعي نجا، وإن كان من الأشخاص الذين يتخبطون في شريعة الله ويحبون الظهور على هذه القنوات الفضائية، أو يحبون الظهور على هذه الصحف، أو يحب أن يُقال: إن فلاناً عالم. ولهذا يقول الرسول ﷺ: « من تعلم العلم ليُماري به العلماء، أو ليُجاري به السفهاء، أو ليصرف به وجوه الناس إليه لم يرح رائحة الجنة ». وهذا البرنامج لا يتسع لأكثر من ذلك. ولا شك أن الموضوع خطير. وبالله التوفيق.



[1] من الآية (19) من سورة الأنعام.

[2] من الآية (1) من سورة الفرقان.

[3] من الآية (28) من سورة سبأ.

[4] الآيات (29-31) من سورة الأحقاف.

[5] من الآية (3) من سورة المائدة.

[6] من الآية (36) من سورة الإسراء.

[7]  الآيات (44-47 ) من سورة الحاقة.

[8] من الآية (33) من سورة الأعراف.

[9] من الآية (33) من سورة الأعراف.