Loader
منذ 3 سنوات

السبب في اختلاف المذاهب الأربعة


الفتوى رقم (1733) من المرسل إ. ع. ع من اليمن - الحديدة، يقول: ما السبب في اختلاف المذاهب الأربعة؛ مع العلم بأن منبعها واحد هو كتاب الله، وسُنّة رسوله ﷺ ؟

الجواب:

 الله -جل وعلا- أنزل القرآن، والقرآن جاء فيه بيان لبعضه من بعض، وجاء بيانه بسُنّة الرسول -صلوات الله وسلامه عليه-، وجاء -أيضاً- بيانه بأقوال الصحابة والتابعين، وأيضاً يُبيّن من جهة اللغة، ومن جهة مقاصد الشريعة، ومن ناحية استنباط العلماء الذين يأتون من بعد؛ فاستنباط المجتهدين من القرآن هذا قد يكون صواباً وقد يكون خطأ، فإذا كان صواباً أُخذ به، والمجتهد له أجران: أجر على اجتهاده، وأجر على إصابته؛ وإذا كان خطأ فللمجتهد أجر اجتهاده، وخطؤه معفوّ عنه؛ لأن العصمة لا تثبت إلا للرسول -صلوات الله وسلامه عليه-؛ أما من جاء بعده، فكما قال الإمام مالك: كلٌّ يُؤخذ من قوله ويُردّ إلا صاحب هذا القبر -صلى الله عليه وعلى جميع إخوانه من الأنبياء والمرسلين وسلم عليهم-.

        جاء الأئمة الأربعة: أبو حنيفة وكان تابعياً من التابعين، ومالك كان من أتباع التابعين، ثم جاء الشافعي، ثم جاء الإمام أحمد.

فمالك تلميذ لأبي حنيفة، والشافعي تلميذ لمالك، والإمام أحمد تلميذ للشافعي؛ وكلّ واحد من هؤلاء الأئمة الأربعة ثبتت له صفة الاجتهاد المطلق، فهو يقرِّر القواعد بنفسه، ويستنبط من أدلة الشريعة على ضوء هذه القواعد؛ فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد كما سبق في ذلك.

ومما ينبغي أن يُعلم بالنظر لهذه المسألة أن الشريعة في أصولها وفروعها ترجع إلى قول واحد في واقع الأمر، وأن الخلاف الذي يحصل بين أهل العلم إنما هو خلاف باعتبار ظاهر الأمر لا باعتبار باطن الأمر؛ فالحق واحد في قواعد الشريعة وفي فروعها، والتعدد الذي يحصل إنما هو بالنظر إلى اختلاف أنظار المجتهدين، لا بالنظر إلى اختلاف الشريعة في ذاتها؛ فكما سبق الشريعة ترجع إلى قول واحد في أصولها وفروعها، وهذا الاختلاف الذي نشأ عندهم له أسباب كثيرة، وقد ألّف العلماء قديماً وحديثاً في أسباب خلاف العلماء؛ وأسباب الخلاف منها ما يكون خاصاً، ومنها ما يكون مشتركاً.

 فمثلاً لاختلاف المحدّثين أسباب، ولاختلاف الفقهاء أسباب، ولاختلاف الأصوليّين أسباب، ولاختلاف المفسّرين أسباب؛ وكلّها قد ألّف فيها العلماء؛ لكن قد يكون هناك -أيضاً- أسباب مشتركة بين الخلاف في هذه العلوم، وبإمكان السائل أن يرجع إلى كتاب (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) لشيخ الإسلام ابن تيمية؛ فقد ذكر أعذاراً كثيرة للخلاف بين العلماء؛ وكذلك (الإنصاف) لوليِّ الله الدهلوي، وكذلك كتاب (الإنصاف) للبطليموسي، قد خدم هذه المسألة خدمة جيدة. وهذه الكتب كلها مطبوعة ومتداولة، وفيه كتب -أيضاً- أخرى في هذا الموضوع؛ فإن معرفة أسباب الخلاف بين أهل العلم تعطي طالب العلم طمأنينة في معرفة هذا الخلاف، وبالتالي يستطيع أن يصل إلى معرفة القول الراجح إذا كان من أهل هذه الصنعة. ومما يحسن التنبيه عليه في نهاية هذا الكلام هو أن الأئمة الأربعة اتفقوا على أنه إذا صحَّ الحديث فهو مذهبهم، وعلى هذا الأساس فهم معذورون فيما حصل بينهم من خلاف، وعلى الذي يريد أن يتحرَّى الحق عليه أن يستقرئ جميع ما قالوه في المسألة الواحدة، وعليه أن يستقرئ مداركهم، وأن يتبيّن له كيف أدركوا هذا الحكم من هذه الأدلة، وأن يعمل موازنة بينها؛ لأنه مسؤول أمام الله -جل وعلا- عن الحكم بدليله إذا كان من أهل ذلك؛ أما إذا كان مقلداً فله أمر آخر. وبالله التوفيق.