معنى قوله تعالى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ
- التفسير
- 2021-09-08
- أضف للمفضلة
الفتوى رقم (1403) من المرسل أ. ح. ع سوداني، ما تفسير قوله -تعالى-:"وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ"[1].
الجواب:
هذه الآية بيّن الله -جلّ وعلا- فيها أن الشخص إذا انقاد إلى أوامر الله ففعلها وترك ما نهاه الله عنه، يرجو ثواب الله ويخاف عقابه؛ فإنه بهذه الطريقة يكون قد أتى بجانبٍ من جانبين، ففيه الانقياد للأوامر يفعلها ويترك النواهي، ويكون عمله هذا مطابقاً لمراد الله -جلّ وعلا- حسب استطاعته، فقد اشتملت هذه الآية على ركنين:
الركن الأول: الانقياد لله وإلى شرعه وإلى توحيده، والإيمان به، وتطبيق شرعه، ويكون هذا الانقياد تاماً.
أما الركن الثاني: أن يطبق هذا الانقياد، وهذا دل عليه قوله -تعالى-:"وَهُوَ مُحْسِنٌ"[2].
وبيان ذلك أن الناس في هذا الباب ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: من يُسلك مسلك الإفراط، فيزيد في باب الأوامر.
الصنف الثاني: من يسلك مسلك التفريط، فيُقصّر في باب ما أمره الله به.
والصنف الثالث: الذي يسلك مسلك العدل؛ بمعنى: إنه يُطبق شرع الله -جلّ وعلا- على نفسه وعلى من ولاه الله أمره بحسب ما تقتضيه المسؤولية.
وبهذا يتبيّن أن هاتين الجملتين جمع الله فيهما ما يتعلق بتوحيده، وما يتعلق بالإيمان به المبين في قوله ﷺ في جوابه لجبريل عندما سأله عن الإيمان، فقال: « أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره »؛ وكذلك هو مشتمل لأركان الإسلام التي فيها التطبيق القولي والتطبيق العملي، وقد بيّن ذلك الرسول ﷺ في جوابه لجبريل حينما سأله عن الإسلام فقال: « أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت ».
وبهذا يتبين أن هاتين الجملتين جمع الله فيهما التوحيد والإيمان والإسلام، وعلى هذا الأساس يكون الإنسان قد امتثل أوامر الله واجتنب النواهي على الوجه الذي يُرضي الله -جلّ وعلا-.
وفيه تفاصيل في الشريعة من الأوامر والنواهي هي داخلة -أيضاً- في ذلك، ويدخل في ذلك -أيضاً- الوسائل، فكما أن الغايات داخلة فيه؛ فكذلك وسائل الغايات، فوسائل المحرم محرمة وداخلة في ذلك، ووسائل الواجب واجبة وداخلة في ذلك، فمن حقق الأوامر وحقق ترك النواهي، وقام بما لله من حق؛ فبهذا يكون قد حقق مدلول هاتين للجملتين: من يُسلم وجهه إلى الله وهو مُحسن فقد استمسك بالعروة الوثقى".
استمسك بالعروة الوثقى يعني: أنه تمسك بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ لأن شهادة الله بمفردها لا تكفي؛ بل لا بد من شهادة أن محمداً رسول الله، فيكون قد تمسّك بها على الوجه الذي يرضي الله -جلّ وعلا-.
وإذا استمر على حالته هذه حتى يأتيه الموت، يكون قد عمل بقوله -تعالى-:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ"[3]، فقد أخذ بأسباب السعادة في حياته قولاً وعملاً واعتقاداً حتى وافاه الأجل؛ فحينئذٍ يكون متمسكاً بالعروة الوثقى. وفي قوله -تعالى-:"وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ"[4]، هذا فيه بيان أمرين:
فأما الأمر الأول: فهو أن مرجع الأمور إلى الله -جلّ وعلا-، وفي الآية حصر وهو تقديم الجار والمجرور في قوله -تعالى-:"وَإِلَى اللَّهِ"[5]، وهذا أسلوب من أساليب الحصر يبين أن الأمور مرجعها إلى الله -جلّ وعلا- لا إلى غيره.
والأمر الثاني: فيه ترغيب وترهيب؛ أما الترغيب فهو لمن حقق مدلول هذه الآية قولاً وعملاً واعتقاداً، فإن الله سبحانه وتعالى يجازيه على عمله على الوجه الذي يراه الله -جلّ وعلا-.
وقد جاءت أدلة تدل على أن الله لا يضيع أجر المصلحين؛ كما قال تعالى:"إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا"[6]، وقوله:"مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً"[7]، فهذا يدل على أنه لا يُنقص من أجر عمله؛ بل يُضاعف له أجر العمل، ويكون -أيضاً- في مأمنٍ من عقاب الله -جلّ وعلا-، فيكون قد تحصل على الثوابِ على العمل من جهة، وعلى الأمن من العقاب من جهةٍ أخرى؛ هذا هو الجانب الأول وهو اشتمال قوله -تعالى-:"وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ"[8] على الترغيب؛ أما اشتمال هذه الجملة على الترهيب فهو أن الشخص الذي لا يُحقق مدلول هذه الآية فهو على خطرٍ من نفسه، فقد فاته الأجر من جهة، وحصل له استحقاق العذاب من جهةٍ أخرى، وذلك على حسب المخالفة التي تحصل منه، فقد تكون مخالفته للآية تُخرجه من الإسلام؛ كالذي يُشرك شركاً أكبر، أو يكفر كفراً أكبر، أو يُنافق نفاقاً أكبر، فهذا يُخرجه من الإسلام، فيرجع أمره إلى الله -جلّ وعلا-، ويعاقبه على فعله هذا: يُدخله النار ولا يُخرجه منها إذا مات على ذلك.
وإذا كانت مخالفته من جهة الشرك الأصغر، فحينئذٍ إما يُدخله الله النار ويُطهره من الشرك، وإما أن يُقلل من حسناته بدرجة ما ارتكبه من الشرك الأصغر إذا مات عليه ولم يتُب؛ وكذلك بالنسبة لكبائر الذنوب والصغائر التي مات عليها وهو مصرٌ عليها يكون تحت مشيئة الله؛ فالمقصود أن جميع الأمور راجعة إلى الله -جلّ وعلا-، فيجازي المُسيء على إساءته إن لم يرحمه، ويجازي المُحسن بإحسانه. وبالله التوفيق.