قرأت في بعض الكتب أن هناك خلافاً بين العلماء في مسألة الحجاب، وأن لكلّ فريقٍ أدلته، فما رأي سماحتكم في هذا الكلام؟
- مفهوم المخالفة
- 2022-01-27
- أضف للمفضلة
الفتوى رقم (9538) من مرسل لم يذكر اسمه، يقول: قرأت في بعض الكتب أن هناك خلافاً بين العلماء في مسألة الحجاب، وأن لكلّ فريقٍ أدلته، فما رأي سماحتكم في هذا الكلام؟
الجواب:
سبق أن كتب سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- وكان في وقته هو المفتي للمملكة، ورئيس القضاة جواباً عن هذا السؤال، رأيت قراءته لشموله لهذا الموضوع. وكان السؤال الذي وُجّه إليه معنى قوله -تعالى-: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}[1].
فأجاب -رحمه الله- قال: اختلف المفسرون في معنى هذه الآية على أقوال:
الأول: روى الحاكم في المستدرك، وابن حبان في صحيحه، وسعيد بن منصورٍ في سننه، وابن أبي شيبة في المصنف وغيرهم بأسانيدهم عن ابن مسعود أنه قال: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ الزينة: السوار والدملج والخلخال والقرط والقلادة، (إلا ما ظهر منها) الثياب والجلباب.
الثاني: روى عبد الرزاق في المصنف، وعبدُ ابن حميدٍ في تفسيره بسنديهما عن ابن عباسٍ -رضي الله عنه- أنه قال: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قال: هو خضاب الكف والخاتم.
الثالث: روى ابن أبي شيبة في مصنفه، وابن أبي حاتمٍ في تفسيره بسنديهما، عن ابن عباسٍ -رضي الله عنه- أنه قال في قوله: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}[2] الوجه والكفان والخاتم.
وروى ابن أبي شيبة في المصنف عن عكرمة في قوله: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قال: الوجه والكفان، وبه قال سعيد بن جبير وعطاء.
وروى أبو داود[3] والبيهقي[4] في سننهما بسنديهما عن عائشة ل قال: أن أسماء بنت أبي بكرٍ م دخلت على النبي ﷺ وعليها ثيابٌ رقاق، فأعرض عنها وقال: « يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت لم يصلح أن يُرى منها إلا هذا، وأشار إلى وجهه وكفه ».
وروى أبو داود في المراسيل[5] عن قتادة أن النبي ﷺ قال: « إن الجارية إذا حاضت لم يصلح أن يُرى منها إلا وجهها ويداها إلى المفصل ».
إذا علمت ما سبق من الأقوال، فالراجح منها هو قول ابن مسعودٍ -رضي الله عنه- لدلالة الكتاب والسنة على مشروعية التستر للنساء في جميع أبدانهن إذا كنا بحضرة الرجال الأجانب.
أما أدلة الكتاب فهي ما يلي:
الأول: قال -تعالى-: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}[6].
وجه الدلالة: أن المرأة إذا كانت مأمورةً بسدل الخمار من رأسها على وجهها لتستر صدرها، فهي مأمورة بدلالة التضمن أن تستر ما بين الرأس والصدر وهو الوجه والرقبة.
وروى البخاري في الصحيح[7] عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: « رحم الله نساء المهاجرين الأُول لما نزل: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}[8] شققن أُزرهن فاختمرن بها ». والخمار ما تغطي به المرأة رأسها. والجيب موضوع القطع من الدرع والقميص. ومن الأمام كما تدل عليه الآية لا من الخلف كما تفعله نساء الإفرنج ومن تشبه بهن من نساء المسلمين.
الثاني: قوله -تعالى-: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[9].
قال الراغب في مفرداته وابن فارسٍ في معجمه: القاعدة لمن قعدت عن المحيض والتزوج. وقال البغوي في تفسيره قال ربيعة الرأي: هن العُجز اللاتي إذا رآهن الرجال استقذروهن؛ فأما من كانت فيها بقية من جمالٍ وهي محل الشهوة، فلا تدخل في هذه الآية. انتهى كلام البغوي.
وأما تبرجها وهو إظهار المرأة زينتها ومحاسنها للرجال الأجانب، ذكر ذلك صاحب اللسان والقاموس وغيرهما.
وجه الدلالة من الآية أنها دلت بمنطوقها على أن الله -تعالى- رخّص للعجوز التي لا تطمع في النكاح أن تضع ثيابها فلا تلقي عليها جلباباً، ولا تحتجب لزوال المفسدة الموجودة في غيرها؛ ولكن إذا تسترت كالشابات فهو أفضل لهن. قال البغوي: وأن يستعففن فلا يلقين الحجاب والرداء خيرٌ لهن.
وقال ابن حبان: وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ عن وضع الثياب ويتسترن كالشابات فهو أفضل لهن. انتهى كلام أبي حيان.
ومفهوم المخالفة لهذه الآية: أن من لم تيأس من النكاح، وهي التي قد بقي فيها بقيةٍ من جمالٍ وشهوة للرجال فليست من القواعد، ولا يجوز لها وضع شيءٍ من ثيابها عند الرجال الأجانب؛ لأن افتتانهم بها وافتتانها بهم غير مأمونٍ.
الثالث: قال -تعالى-: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}[10].
وجه الدلالة: أن الله -تعالى- أمر نساء النبي بلزوم بيوتهن ونهاهن عن التبرج، وهو عامٌ لهن ولغيرهن كما هو معلومٌ عند الأصوليين أن خطاب المواجهة يعم؛ ولكن خصهن بالذكر لشرفهن على غيرهن. ومن التبرج المنهي عنه إظهار الوجه واليدين.
الرابع: قوله -تعالى-: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}[11].
المتاع عامٌ في جميع ما يمكن أن يطلب من مواعين وسائر المرافق للدِّين والدنيا.
وجه الدلالة من الآية: أن الله -تعالى- أذن في مسالة نساء النبي ﷺ من وراء حجاب في حالة تعرضٍ ومسألةٍ يستفتين فيها، ويدخل في ذلك جميع النساء بما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة عورةٌ بدنها وصوتها، فلا يجوز كشف ذلك إلا لحاجةٍ؛ كالشهادة عليها، وداءٌ يكون ببدنها، وسؤالٌ عما يعرض وتعين عندها، وهذا يدل على مشروعية الحجاب، ولهذا قال: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}[12] يريد الخواطر التي تعرض للنساء في أمر الرجال وبالعكس؛ أي: ذلك أنفى للريبة، وأبعد للتهمة، وأقوى للحماية، وهذا يدل على أنه لا ينبغي لأحدٍ أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له.
الخامس: قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[13].
وجه الدلالة من الآية ما رواه جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه في تفاسيرهم بأسانيدهم، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما وعبيد السلماني -رضي الله عنه- أنهما قالا: أمر الله نساء المسلمين إذا خرجن إلى بيوتهن في حاجةٍ أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدةً. انتهى كلامهما.
وقوله: عَلَيْهِنَّ ؛ أي: على وجوههن؛ لأن الذي كان يبدو في الجاهلية منهن هو الوجه.
والجلابيب جمع جلبابٍ. قال ابن منظور في لسان العرب نقلاً عن ابن السكّيت: قالت العامرية: الجلباب الخمار. وقال ابن الأعرابي: الجلباب الإزار. وقال الأزهري معنى قول ابن الأعرابي: الجلباب الإزار، لم يُرد به إزار الحق، ولكنه أراد به إزاراً يشتمل به فيجلل جميع البدن؛ وكذلك إزار الليل وهو كثوب السابغ الذي يشتمل به النائم فيغطي جسده كله. انتهى كلام ابن منظور.
وفي صحيح مسلمٍ[14] عن أم عطية رضي الله عنها قالت: « يا رسول الله، إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال: لتلبسها أختها من جلبابها ».
فقال أبو حيان في تفسيره: كان دأب الجاهلية أن تخرج الحرة والأمة وهما مكشوفات الوجه في درعٍ وخمارٍ، وكان الزناة يتعرضون لهن إذا خرجن في الليل لقضاء حوائجهن في النخيل والحيطان للإماء، وربما تعرضوا للحرة بعلة الأمة ويقولون: حسبناها أمة. فأُمرن أن يُخالفن بزيهن زيي الإماء بلبس الأردية والملاحف وستر الرؤوس والوجوه ليحتشمن ويُهبن فلا يطمع فيهن.
وإذْ قد أتين على الأدلة من الكتاب والسنة فيحسن أن نختم الكلام عليها بكلامٍ لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية تتعلق بهذه الآيات، قال -رحمه الله-: والسلف قد تنازعوا في الزينة الظاهرة على قولين: فقال ابن مسعودٍ: ومن وافقه هو ما في الوجه من يدين مثل الكحل والخاتم، قال: وحقيقة الأمر أن الله جعل الزينة زينتين: زينة ظاهرةً، وزينةً غير ظاهرة، وجوّز لهما إبداء الزينة ظاهرة ولغير الزوج وذي المحارم. وأما الباطنة فلا تبديها إلا للزوج وذي المحارم. وقبل أن تنزل آية الحجاب كان النساء يخرجن بلا حجاب، يرى الرجال وجهها ويديها، وكان إذ ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين، وكان -حينئذٍ- يجوز النظر إليها؛ لأنه يجوز لها إظهاره، ثم لما أنزل الله -عزوجل- آية الحجاب بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ}[15] حُجب النساء عن الرجال، وكان ذلك لما تزوج النبي ﷺ زينب بنت جحشٍ « فأرخى النبي ﷺ الستر ومنع أنس من أن ينظر »[16]. ولما اصطفى صفية بنت حييٍ بعد ذلك على خيبر قالوا: « إن حجبها فهي من نساء المؤمنين، وإلا فهي مما ملكت يمينه فحجبها »[17].
فلما أمره الله ألا يُسألن إلا من وراء حجاب، وأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن. والجلباب هو الملاءة وهو الذي يسميه ابن مسعودٍ وغيره الرداء، وتسمّيه العامة الإزار الكبير الذي يغطي رأسها ويستر بدنها. وقد حكى عبيدة وغيره أنها تدنيه من فوق رأسها فلا تظهر إلا عينها. وجنسه النقاب، فكان النساء ينتقبن، وفي الصحيح: « أن المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين »، وإذا كن مأموراتٍ بالجلباب وهو ستر الوجه بالنقاب، كان حينئذٍ الوجه واليدان من الزينة التي أمرت ألا تظهرها للأجانب، فما بقي يحل للأجانب النظر إلا إلى الثياب الظاهرة، فابن مسعودٍ ذكر آخر الأمرين، وابن عباسٍ أول الأمرين. انتهى كلام شيخ الإسلام.
وأما الأدلة من السنة فنقتصر منها على ما يأتي:
الدليل الأول: عن أم مسلمة رضي الله عنها أنها كانت عند رسول الله ﷺ مع ميمونة، قالت: بينما نحن عندها أقبل ابن أم مكتومٍ فدخل عليه، وذلك بعد أن أُمر بالحجاب، فقال ﷺ: « احتجبا منه، فقلت: يا رسول الله، أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال ﷺ: أفعمياوان أنتما أنتما تبصرانه؟ » رواه الترمذي وغيره[18]، وقال بعد إخراجه: هذا حديثٌ حسنٌ صحيح. وقال ابن حجرٍ: إسناده قوي.
الثاني: عن أنسٍ -رضي الله عنه- قال: قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: « يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب » فأنزل الله آية الحجاب. أخرجه الشيخان[19].
الثالث: عن عائشة رضي الله عنها قالت: « كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله ﷺ محرماًت، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه ». رواه الإمام أحمد، وأبو داود وابن ماجه وغيرهم.
الرابع: عن عقبة بن عامرٍ أنه سأل النبي ﷺ عن أختٍ له نذرت أن تحج حافيةً غير مختمرة، فقال: « ردوها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام » رواه الإمام أحمد[20] وأهل السنن[21]، قال الترمذي بعد إخراجه: هذا حديثٌ حسن.
أما وجه الدلالة من الأحاديث الثلاثة الأُول، فظاهرٌ؛ وأما الرابع فوجه الدلالة منه أن النبي ﷺ أمرها بالاختمار؛ لأن النذر لم ينعقد فيه؛ لأن ذلك معصية، والنساء مأموراتٌ بالاختمار والاستتار.
الخامس عن عبد الله بن مسعودٍ -رضي الله عنه- عن النبي ﷺ قال: « المرأة عورةٌ »، رواه الترمذي[22]، والبزار[23]، وابن أبي الدنيا، والطبراني[24]، وابن خزيمة[25]، وابن حبان[26] في صحيحهما. وقال الترمذي: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ. وقال المنذري: رجاله رجال الصحيح.
والمقصود: أن الأدلة الدالة على جواز كشف الوجه واليدين نُسخِت بالأدلة الدالة على وجوب تستر المرأة؛ كما يدل عليه حديث أم سلمة وحديث أنسٍ السابقان. وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، رئيس القضاة والمفتي العام للملكة العربية السعودية محمد بن إبراهيم -رحمه الله-.
[17] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر(5/135)، رقم (4213)، ومسلم في صحيحه، كتاب النكاح، باب فضيلة إعتاقه أمته ثم يتزوجها (2/1045)، رقم(1365).
[18] أخرجه أبو داود في سننه، كتاب اللباس، باب في قوله تعالى: ﮋ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮊ (4/63)، رقم(4112)، والترمذي في سننه، أبواب الأدب، باب ما جاء في احتجاب النساء من الرجال(5/102)، رقم(2778).
[19] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب ﮋ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﮊ (6/20)، رقم(4483)، ومسلم في صحيحه، كتاب الآداب، باب إباحة الخروج للنساء لقضاء حاجة الإنسان(4/1709)، رقم(2170).
[21] أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأيمان والنذور، باب من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية(3/233)، رقم(3293)، والنسائي في سننه، كتاب الأيمان والنذور، باب إذا حلفت المرأة لتمشي حافية غير مختمرة(7/20)، رقم(3185).