Loader
منذ سنتين

أصبحت كلمة -المسألة فيها خلاف- مطية يرددونها دائماً على كل منكرٍ أو أمر بمعروف، ما الضابط لمسألة الخلاف؟


الفتوى رقم (9819) من مرسل من الرياض، يقول: أصبح كثير من أهل التقصير -هداهم الله- يستمعون إلى فتاوى عديدة عبر قنواتٍ فضائيةٍ مختلفة، فإذا نصحته بأن هذا الفعل محرمٌ قال: المسألة فيها خلاف. وأصبحت كلمة -المسألة فيها خلاف- مطية يرددونها دائماً على كل منكرٍ أو أمرٍ بمعروف، ما الضابط لهذه المسألة أقصد مسألة الخلاف؟ وكيف نرد عليهم أحسن الله إليكم؟

الجواب:

        أولاً: فروع الشريعة منها ما هو محلُ إجماع، وقد أُلّف في ذلك كتب؛ مثل: مراتب الإجماع، وموسوعة الإجماع، ومثل ما هو موجود في كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد. ومن الفروع ما هو مختلفٌ فيه، والخلافُ يكون ضعيفاً، ولهذا نجد أن ابن رشد في كتابه بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ونجد كتاب الإفصاح لابن هبيرة، وكتاب الوجيز للإمام الغزالي يذكرون في هذه الكتب -وهي مرتبة على أبواب الفقه- المسائل، أو يذكرون جملة من المسائل المتفق عليها. والمقصود اتفاق الأئمة الأربعة.

        وإن وُجد خلاف فالخلاف ضعيف؛ لكن قد يوجد مسائل يبدأ الخلاف فيها من حياة الصحابة؛ لأن الصحابة إذا أجمعوا على أمر فلا عبرة بالخلاف الذي يحدث بعده؛ وهكذا لو أجمع التابعون على مسألة فلا عبرة بالخلاف الذين يحدث بعدها.

        ثانياً: الخلاف تارةً يكون لفظياً، وتارةً يكون معنوياً.  والخلاف اللفظي وهو الذي يؤولُ إلى الاتفاق ولكنه يحتاج إلى أشخاصٍ يعرفون كيف يكون الخلاف لفظياً، وكيف يكون الخلاف معنوياً.

        وإذا كان الخِلافُ معنوياً فإن الشخص الذي ينشأ عنه الخِلاف؛ بمعنى: إنه طرفٌ في الخلاف، فعندما نأتي إلى مسألةٍ اختلف الصحابةُ فيها على قولين وهذا الخِلاف معنوي، أو اختلف التابعون على قولين، أو اختلف أتباع التابعين؛ فإننا ننظر إلى هذا الشخص الذي أنشأ القول فإن كان من الصحابة أو من التابعين أو أتباع التابعين؛ يعني: القرون المُفضلة؛ فهذا لا يحتاج البحث عنه.

        لكن عندما ينشأ قولٌ بعد القرون المفضلة تحدث مسألة ويحصل فيها خلاف؛ لأن الواقعات التي تحدث من الناس لا تُحصى. والعالِم في الشريعة قد يكون علمه علماً نظرياً ، وقد يكون علمه علماً تطبيقياً؛ والعلم النظري هو الذي يستنبط من الأدلة ويحكي هذا الاستنباط بصرف النظر عن ربطه بواقع حياة الناس.

        أما التطبيقي فهو الذي يُطبق الوقائع التي تقع من الناس على مواقعها من الشريعة، وهو محتاجٌ إلى أربع مراحل:

         المرحلة الأولى: أن يتصور الواقعة كما هي ويعرفُ مناط هذه الواقعة.

        المرحلة التي بعد هذا هي مرحلة: موقعها من الشريعة، ثم ينظر في هذا الموقع من الشريعة من ناحيةِ مناط الحكم.

        المرحلة الثالثة: أن ينظر في مناط الواقعة وفي مناط موقعها من الشريعة. فإذا اتفق مناط الواقعة ومناط الموقع تأتي بعد ذلك المرحلة الرابعة: وهي مرحلة الحكم.

        فكل حادثة لا بدّ لها من هذه المراحل، إلا إذا كانت المسألة من المسائل التعبدية؛ فهذه يحتاج إلى الربط بين الواقعة وبين موقعها من الشريعة، ثم بعد ذلك يُصدر الحكم. وإذا كان المناط منصوصاً عليه في موقعه من الشريعة فإنه يتأكد من وجوده في الواقعة. والشخص الذي ينظر هذا النظر لابدّ أن يكون على مستوىً من العِلم يؤهلهُ في إنشاء القولِ.

        وقد ذكر العلماء مراتب لفقهاء الشريعة فذكروا منها:

        مرتبة المجتهد المُطلق، ومجتهد المذهب، ومجتهد الفتوى، ومجتهد التخريج، ومجتهد التصحيح، ومجتهد الترجيح، وبعد ذلك يأتي المجتهد الجزئي مجتهد المسألة، ثم بعد ذلك يأتي المُقلد الذي يأخذ الحكم ولكنه لا يبحث عن دليله، ويكون غير مؤهل في النظر في الدليل.

        فعندنا شخصٌ أنشأ القول، وعندنا شخصٌ حكى الخلاف. الشخص الذي أنشأ القول هذا انتهينا منه؛ لكن الشخص الذي ينقل الخلاف لا بدّ أن ينظر في صاحب هذا القول من أي طبقة من طبقات الفقهاء؟ وهل هو مؤهل في أن ينشئ هذا القول؟ أم أنه غير مؤهل؟ لأن بعض الأقوال قد يُصاحبها الهوى، وبعض الأقوال قد يصاحبها الجهل. والجهل يكون بأمرين:

        أما الأمر الأول: فهو بمقاصد الشريعة.

        وأما الأمر الثاني فهو: بالوسائل التي استعانوا بها على فهم أدلة التشريع؛ فحينئذٍ يأتي بالقول وعندما يأتي الشخص الذي يناسبه هذا القول مع أنه صدر من شخصٍ غير مؤهل تأهيلاً علمياً، لكن هذا القول يناسب هذا الشخص فإنه يقول هذه مسألةٌ فيها خلاف.

        فلابد أن ينظر الشخص في القائل الذي قال هذا القول، أنشأ هذا القول هل هو في مستوى صاحب القول الثاني؟ بمعنى: إن كل صاحبِ قولٍ أو أصحابُ قولٍ كلهم مؤهلون تأهيلاً علمياً في إنشاء القول، وكلمة: "إنشاء القول" يُقصد منها الاستنباط من أدلة التشريع، فهذا عالمٌ يستنبط، ويأتي عالمٌ آخر يستنبط، ننظر في مكانةِ هذين العالمين. أو مثلاً مجموعة من العلماء يقولون بقولٍ، ومجموعة من العلماء يقولون بقولٍ عادةً أن المُنشئ يكون هو الأول من ناحية الترتيب الزمني والبقية يوافقونه مثلاً على هذا القول، فلا بدّ من معرفة مكانة الشخص الذي أنشأ القول. والشخص الذي يحتاج إلى معرفة مكانة المنشئ هو الذي ينقلُ هذا القول ويريد أن يعتمد عليه.

        ثم أيضاً إن هذا الشخص الذي ينقل هذه الأقوال لا بدّ أن يكون على علمٍ من الأدلة التي استدل بها الطرفان، ولا بدّ أن يكون عالماً بأسباب الاختلاف؛ لأن الخلاف الذي يقع بين أهل العلم كما سبق قبل قليل؛ تارة يكون لفظياً، وتارة يكون معنوياً، فإذا كان معنوياً فلا بدّ له من سبب، ولهذا خدم العلماء هذا الجانب من علم الخلاف، وألفوا كتباً في أسباب الخلاف، ومن أحسن الكتب التي ألفت في هذا من الناحية النظرية: كتاب الإنصاف في أسباب الخلاف للبطليوسي، ومن أحسن الكتب التي أُلفت في أسباب الخلاف من الناحية التطبيقية: كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد.

        ولا بدّ أن يكون على علمٍ بمصطلحات العلماء؛ وبخاصة العلماء الذين أسسوا المذاهب الأربعة؛ مثل: مصطلحات المذهب الحنبلي، ومصطلحات المذهب الشافعي، ومصطلحات المذهب المالكي، ومصطلحات المذهب الحنفي. وهذه المصطلحات مخدومة فيها كتب مطبوعة إلا بالنسبةِ للمذهب الشافعي فأنا إلى الآن لا أعلم كتاباً أُلف في مصطلحاته؛ إلا أنه يوجد مجموعة رسائل فيها ما يحتاج إليه طلبة الشافعية، وذكر فيه جملة من المصطلحات؛ وكذلك ما ذكر في مقدمة المجموع شرح المهذب فإنه ذكر جملةً من مصطلحات المذهب الشافعي؛ أما بالنظر إلى المذهب المالكي والحنبلي والحنفي ففيه كتبٌ مؤلفةٌ في مصطلحاته من جهة الأقوال، ومن جهة الرجال، ومن جهة الكتب.

        فعلى الشخص الذي يدخل هذا المدخل أن يكون على المستوى اللائق.

        أما بالنظر لما يتداوله بعض الأشخاص؛ يعني: يكون عمره خمس عشرة سنة وبعد ذلك يقول: هذه المسألة فيها خلاف، ويكون له رغبة في القول الذي يناسبه، يقول هذه مثل الآن مسألة الحجاب؛ مع أن مسألة الحجاب كلام الصحابة وكلام التابعين وأتباع التابعين واضحٌ فيها. لم يكن فيه حجاب في البداية لكن نُسخ ذلك نسخ ووجب؛ يعني: جاءت الأدلة الدالة على وجوب الحجاب، فالصحابيات في حجة الوداع كُنّ يحتجبن إذا رأين الرجال الأجانب. ومعنى الحجاب أنها تنزل الخمار على وجهها، لكن يأتيك واحد عمره خمس عشرة سنة، عشرون سنة يقول: مسألة الحجاب فيها خلاف!

        وعلى هذا الأساس تأتي مسائل وبخاصة المسائل التي تُشغل الناس الآن، فيتكلم في الخلاف من ليس من أهله!

        فالواجب على طالب العلم: أن يتقي الله -جل وعلا-، وأن يتجنب هذا المنهج، وأن يعتمد على القول الصحيح في المسائل الخلافية، وإذا كان مؤهلاً فالله سيسأله، وإذا كان غير مؤهل فالله -جل وعلا- قال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[1].

        أما شخص مستواه العلمي وبنيته التحتية لا تؤهله لذلك، وبعد ذلك يأخذ قولاً ويعتمد عليه، ولم يعمل مقارنةً بين الأقوال وبين الأدلة، ويستنتج من ذلك وجوه الترجيح، ويتبين له أن هذا القول هو الراجح حسب قواعد الأصول فإنه لا يجوز له أن يفعل ذلك. وبالله التوفيق.



[1] من الآية (43) من سورة النحل.