Loader
منذ سنتين

هل ورد أن الدِّين دين وسط؟ وهل جاء ذلك في عبارات السلف؟


الفتوى رقم (11840) من مرسل لم يذكر اسمه، يقول: جاء في القرآن أن هذه الأمة أمة وسط. وجاء في وصف رسول الله ﷺ أنه من أوسط قومه نسباً، فهل ورد أن الدِّين دين وسط؟ وهل جاء ذلك في عبارات السلف مع التأكيد أن كلمة (وسطية الدين) تستخدم اليوم في مقام القاعدة الفقهية التي توزن بها الأحكام مع عدم وجودها في كتب القواعد الفقهية؛ الأمر الذي أدى إلى رد بعض الأحكام بحجة الوسطية وإلى تغييب بعض الثوابت بحجة الوسطية؟ نرجو الإيضاح أحسن الله إليكم.

الجواب:

إذا نظرنا إلى هذه الشريعة وجدناها وسطية من جهة التشريع: من جهة أصله، وكميته جنساً، وكميته نوعاً؛ وكذلك من جهة أعيان المسائل. ووجدناها وسطية من جهة مكان أداء التكاليف، ومن جهة الزمان الذي تؤدى فيه التكاليف، ومن جهة مراعاة أحوال المكلفين.

وبيان ذلك: أن الله -سبحانه وتعالى- إذا نهى عن أمر من الأمور نظرنا إلى هذا النهي من جهة صيغته، ومن جهة مقتضى هذه الصيغة.

والعلاقة بين الصيغة وبين مقتضاها؛ وكذلك من جهة المنهي عنه، وعلاقة مقتضى الصيغة بالمنهي عنه، فالعلاقة بين الصيغة ومقتضى الصيغة هو التلازم، فكلما وجدت الصيغة وجد مقتضاها، وكلما وجد المقتضى فلابد من وجود الصيغة. وإذا نظرنا إلى العلاقة التي بين مقتضى الصيغة وبين المنهي عنه وجدنا أن هذا يكون بحسب اختلاف الأمكنة والأزمنة والأحوال والأشخاص؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- حرم أشياء في القرآن، وجاء تحريمها -أيضاً- في السنة ثم جاءت الرخص. ومن المعلوم أن العزيمة هي عبارة عن الأمور التي جاءت على وفق الدليل الأصلي السالم عن معارض راجح.

وإذا نظرنا إلى الرخصة وجدنا أنها جاءت على خلاف الدليل الشرعي -الذي هو العزيمة - لمعارض راجح (والمعارض الراجح هو دليل الرخصة)، فالله -سبحانه وتعالى- لما ذكر: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} إلى أن قال: {فَمَنِ اضْطُرَّ}[1]. وفيه قاعدة من قواعد هذه الشريعة لها علاقة بهذا الموضوع وهي قاعدة المشقة تجلب التيسير.

وإذا نظرنا إلى قاعدة الأمر وجدنا أن الأمر له صيغة، وأن هذه الصيغة لها مقتضى وهو الوجوب، والمأمور به واجب.

وبناء على ذلك فالعلاقة بين صيغة الأمر ومقتضاها كالعلاقة بين صيغة النهي ومقتضاها. والعلاقة بين مقتضى صيغة الأمر والمأمور به كالعلاقة بين مقتضى صيغة النهي والمنهي عنه.

نعم، في الشريعة أمور لا يمكن أن تُتجاوز وهي الشرك بالله فإنه لا يباح في أي حال من الأحوال؛ وكذلك قتل النفس المعصومة بغير حق لا تباح، وكذلك الزنا لا نقول: يكون مباحاً. فمثلاً لو هدد رجل وقيل له: إما أن تزني وإلا عذبناك وما إلى ذلك فإنه لا يستبيح ذلك. فالإكراه لا يكون مسوغاً له؛ أما المرأة فقد يتصور في حقها الإكراه.

بناء على هذا الكلام كله: فنحن إذا نظرنا إلى الشريعة من جهة أصل التشريع وجدناها جاءت على الوسط فليس فيها إفراط وليس فيها تفريط.

فعلى سبيل المثال: إذا نظرنا إلى الطهارة وإلى الصلوات التي فرضها الله ونظرنا إلى أوقاتها وإلى الأمكنة التي تؤدى فيها، ونظرنا إلى الصيام أنه شرع في السنة شهراً واحداً، وإلى الحج شرع في العمر مرة؛ وهكذا فإذا نظرنا إلى الشريعة من جهة أصلها، أو من جهة كميتها، أو من جهة الأنواع؛ فالصلاة نوع والصيام؛ وهكذا بالنظر إلى الحج وما إلى ذلك، فليس فيها إفراط من ناحية الكثرة، وليس فيها تفريط؛ هذا من جهة أصل التشريع.

أما إذا جئنا إلى تطبيق المكلفين فالمفروض على المكلفين أن يكون تطبيقهم موافقاً للتشريع، وذلك أن الناس أصناف:

الصنف الأول: من يطبق هذه الشريعة تماماً، وقد يحصل منه شيء من النقص؛ ولكن الأصل أنه يسعى إلى تطبيقها.

الصنف الثاني: مخالف لها تماماً، وهؤلاء هم الكفار.

الصنف الثالث: موافق من جهة الظاهر ولكنه مخالف من جهة الباطن، وهؤلاء هم المنافقون.

وفيه من يشرع ديناً لم يأذن به الله وهذا يندرج تحته جميع أصحاب البدع؛ سواء كانت البدعة مكفرة، أو كانت من كبائر الذنوب. المقصود بباب البدع أنهم يتقربون بما يعملون به على أنه دين، والرسول ﷺ قال: « عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين. تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ».

        فعلى هذا الأساس لابد أن يكون الشخص جارياً على الطريق المستقيم: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}[2].

        وحصول سوء التطبيق من المكلفين المنتسبين إلى الشريعة هذا لا ينسب إلى الشريعة؛ وإنما ينسب إلى فاعله.

        وعلى هذا الأساس كثير من الناس عندما يحصل من شخص إساءة في تطبيق الشريعة يتنسبون هذا إلى الشريعة ولا يصح أن ينسب إلى الشريعة؛ إنما ينسب إلى الشخص فالله يقول: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)}[3].

فإذن لابد أن يكون تطبيق الشخص مطابقاً للمقصود، فلو أن شخصاً أراد أن يصلي ألف ركعة، أو يصوم دائماً ولا يفطر أبداً، أو لا يتزوج أبداً، أو لا يأكل اللحم؛ هذا لا يجوز للإنسان أن يفعل ذلك.

أو الأشخاص الذين يتهاونون في أمور دينهم من صلاة أو صيام أو زكاة أو حج أو غير ذلك؛ فكل ذلك خارج عن حد الوسطية.

فحقيقة الوسطية: أن تؤدي شرع الله الذي أناطه بك وكلفك به كما طلب منك.

ومما يحسن التنبيه عليه -هنا- وله تعلق بهذا السؤال هو:

ما يشاع من جهة الإرهاب ومفهومه فإن الناس يختلفون في مفهومه، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتمسك بهذا الدين على الوجه السليم ليس من الإرهاب في شيء وإن قال من قال: إن هذا من باب الإرهاب، فالواقع أن هذا ليس من الإرهاب في شيء.

وأما بالنظر إلى الخروج عن الحد المشروع إلى الظلم: تظلم مسلماً أو تظلم مستأمناً فلاشك أن هذا إرهاب؛ ولكنه ممنوع وليس بمشروع، فلابد أن نفرق بين الإرهاب الممنوع والإرهاب المشروع. وبالله التوفيق.



[1] من الآية (3) من سورة المائدة.

[2] من الآية (153) من سورة الأنعام.

[3] الآيتان (13-14) من سورة الإسراء.