حكم احتكار السلع
- البيوع والإجارة
- 2021-06-17
- أضف للمفضلة
الفتوى رقم (250) من م.ي.إ مصري مقيم في جدة -محطة التحلية، يقول: في بلدنا تاجر مشهور بالصلاح يبيع سلعة مهمة ذات نفع عظيم في معاش أبناء البلد، لكنه يحتكر بيعها ويخزّنها في حقله ويبقيها في مخزنه شهوراً، ولا يعرض منها إلا القدر اليسير في دكانه بهدف رفع سعرها ومنع رخص ثمنها، ولهذا التاجر، عالم قريب وصديق، لا يرى في ذلك بأساً أو حرجاً، في حين يرى ويسمع هذا العالم عن تاجر آخر في قرية مجاورة يلقي بالكثير من سلعٍ لديه في النهر، ويطعمهم للحيوانات والطير ولا يبيع إلا الجزء اليسير للناس؛ خشية كساد سلعته وبوارها، فيحرّم هذا العالم فعل هذا التاجر الذي من القرية الأخرى، ولا يستنكر على قريبه التاجر؟
الجواب:
الجواب من وجهين:
أما الوجه الأول: فهو في الشخص الذي يحتكر المال، على حسب ما جاء في السؤال، ويبقيه عنده فترة طويلة ويبيعه بيعاً مجزأً من أجل المحافظة على السعر، ويجد ممن ينتسب إلى العلم من يسوّغ له ذلك، فإذا كانت هذه السلعة موجودة في الأسواق، والشخص إذا لم يقتنع بهذا السعر الذي حدده هذا الرجل، يجد هذه السلعة عند أناس آخرين، ويشتريها بأقل.
فعلى الشخص الذي يرغب في شرائها أن يتجول في سوق البلد، ليبحث عن شخص أقل سعراً منه، ويشتري منه.
وإذا كانت هذه السلعة لا يحتاج إليها الناس، فحينئذ لا تكون داخلة في موضوع الاحتكار الذي جاء النهي عنه.
لكن إذا كان بالناس حاجة لها، ولا توجد عند غيره -المنفرد بها تقريباً- ويرفع سعرها أو يمنع الناس من شرائها، فحينئذ يكون هذا من المنهي عنه؛ لأن التصرف في الأموال منوط بقاعدة المصالح، وحينئذ إذا منع الناس من هذا، يكون قد أضر بهم، وقد يحصل عليه من الضرر ما لا يتوقع حصوله.
وذلك أن الأمور بيد الله -جل وعلا-، فهو المتصرف في خلقه كيف شاء، فقد يعاقب هذا الشخص بأخذ نفسه، وقد يعاقبه بماله من وجه آخر، وقد يعاقبه بنزع البركة من حياته وإن بقي جسمه، وقد يعاقبه بنزع البركة من ماله، وإن كثر ماله، فقد يجعله يشتغل في ماله في وجوه ليست بمشروعة.
فعلى العبد أن يتقي الله في نفسه، وأن يتقي الله في عباد الله، فإن الله سبحانه وتعالى قد كتب الإحسان على كل شيء، والله -جل وعلا-، يقول: "وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"[1].
وهذا العالم أو هذا المنتسب إلى العلم الذي جوّز له هذا الأمر، ينبغي له أن يتقي الله في نفسه؛ لأنه مؤتمن بالعلم الذي عنده، ولا يجوز له أن يضعه إلا في موضعه الشرعي، فلا يجوز لصاحب العلم أن يضع علمه من أجل حصول مال أو من أجل حصول جاه أو من أجل إرضاء الناس، فإن هذا كله يمقته الله -جل وعلا-، وقد ينزع البركة من حياة هذا الشخص ومن علمه.
فالمقصود أن الشخص إذا أراد أن يتكلم بحكم شرعي، فعليه أن ينظر لمطابقة هذا الجواب لما يرضي الله -جل وعلا-، أما رضا الناس، فإنه لا ينفع ولا يضر، فأنت إذا أرضيت الله -جل وعلا-، فرضا الله يتبعه رضا الناس، وإن سخطوا فسيرضون فيما بعد، لكن إن أسخطت الله -جل وعلا- بما يرضي الناس فقد خسرت خسارتين، فإن الناس سيسخطون عليك مستقبلاً وإن رضوا عنك في الحال، وقد جاء رجل إلى النبي ﷺ يطلب منه مالاً، فقال: يا رسول الله، أعطني فإن ذمي شين ومدحي زين، فالتفت إليه الرسول ﷺ وقال له: « ذلك الله »[2]؛ يعني أن الله إذا مدح فمدحه زين وإذا ذم فذمه شين لما يترتب على مدحه من العواقب الطيبة، ولما يترتب على ذمه من العواقب التي لا تخفى، فعلى صاحب العلم أن يتقي الله في نفسه وفي علمه، وفي عباد الله -جل وعلا-، وأن يتقي الله في الأمانة التي ائتمنه الله -جل وعلا- عليها، هذا من ناحية الوجه الأول.
أما الوجه الثاني: وهو الشخص الذي يهدر كثيرا من ماله في النهر محافظة على بقاء الأسعار التي يبيع بها على الوجه الذي يرضاه، فهذا لا يجوز له؛ لأن هذا من باب الاعتداء، فلا يجوز له أن يفعل ذلك، بل عليه أن يعرض المال، وأن يبيعه بالسعر الذي ييسره الله -جل وعلا-، ولا فرق في ذلك بين أن يكون السعر غالياً أو قليلاً أو متوسطاً؛ لأنه لا يدري أين تكون البركة، فقد يحفظ نفسه في موازنة الأسعار، ولكن يفوت عليه من المصالح الدنيوية ومن المصالح الأخروية -بسبب هذا التجني- أمور لا يستطيع أن يقدرها، ولا أن يتصورها على وجهها إلا بعد وقوعها.
وهذا الشخص الذي أفتاه بأن عمله هذا لا يجوز، وأفتى الأول بأن عمله جائز، هذه الفتوى بمقارنة هاتين الحالتين، ليست بصحيحة، وقد تكلمت عن فتوى العالم بالنظر إلى الوجه الأول، والكلام الذي قيل عنه هناك يأتي هنا؛ لأنه في فتواه ذات الطرفين قد سلك مسلك الإفراط وسلك مسلك التفريط، وبالله التوفيق.
[2] أخرجه أحمد في مسنده (25/369)، رقم(15991)، والترمذي في سننه، أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الحجرات(5/387)، رقم(3267).