Loader
منذ سنتين

حديث « بدأ الإسلام غريباً وسيعود غربياً » ما الغربة التي يقصدها الرسول؟


الفتوى رقم (11519) من المرسل ع. س من أوثال - القصيم، يقول: قول النبي ﷺ: « بدأ الإسلام غريباً وسيعود غربياً كما بدأ فطوبى للغرباء ». ما الغربة التي يقصدها الرسول ﷺ هل هي ابتعاد المسلمين عن الدِّين وعدم تطبيق أحكامه؟ وهل ينطبق هذا الحديث على عصرنا الحاضر؟

الجواب:

        هذا الحديث من الأحاديث التي تدل على معجزة من معجزات الرسول ﷺ، وهي أنه ينبئ عن أمور مستقبلة وتقع كما أخبر بها. ومعلوم أن السنة هي الوحي الثاني، ومن الفروق بينها وبين القرآن أنها وحي من ناحية المعنى؛ وأما صياغة اللفظ فمن الرسول ﷺ، وهذا بخلاف القرآن فإن القرآن كلام الله بلفظه وبمعانيه.

        وهذا الحديث يدل على وصف نشأة هذا الدِّين، وأن هذه النشأة هي الغربة، ولهذا الرسول ﷺ حينما كان في مكة يدعو سراً، وأول من آمن به من الرجال أبو بكر -رضي الله عنه-، ومن الصبيان علي بن أبي طالب إلى آخر من آمن به، حتى جاءه عمر؛ لأن النبي ﷺ دعا ربه فقال: « اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين »[1] فجاءه عمر -رضي الله عنه- وكان عمر على الكفر- فجاءه عمر وقال: يا رسول الله، هل أنت على الحق أو على الباطل؟ قال: « على الحق ». قال: قم فادعُ الناس[2] فأسلم عمر وانتقلت الدعوة من كونها سراً إلى كونها جهراً.

        وكان الرسول ﷺ يؤذى بالقول ويؤذى بالفعل، وكان يقول: « اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون »[3].

        وليس المقصود هنا هو سرد ما وقع للرسول ﷺ من الأذى قبل هجرته إلى المدينة، لكن الشيء الذي يحتاج إلى تنبيه أنه كان يؤذى وما كان يأخذ حقه؛ بل يترك المؤذي لا يعارضه في شيء؛ فهذه مرحلة ثانية.

        ثم جاءت المرحلة الثالثة: وهي أنه عندما يعتدى عليه يأخذ حقه؛ كما قال -جلّ وعلا-: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}[4]، فقد يرى في بعض المواقف أنه يأخذ حقه، وقد يرى في بعض المواقف العدول عن هذا الشيء.

        ثم جاءت المرحلة الرابعة وهي هجرته إلى المدينة وإعلان الجهاد في سبيل الله -عزوجل-.

        فأنت ترى التدرج من ناحية هذا الدِّين، مع أن هذا الدِّين هو دين للبشرية عموماً؛ كما قال -تعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}[5]، وقال -جلّ وعلا-: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}[6]، وقال -تعالى-: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[7] إلى غير ذلك من الأدلة التي جاءت دالة على عموم هذه الشريعة.

        وكما أنها عامة فهي كاملة كما قال -جلّ وعلا-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[8]، وهي -أيضاً- ثابتة لا تتغير، فهي ثابتة من ناحية أصولها، وقد يحصل التغيير في بعض الأمور التي تبنى على العرف بالنظر إلى اختلاف مناط الحكم فيها.

        تطور الإسلام وغزا المسلمون الديار والبلدان وأسلم من شاء الله -تعالى- من الناس؛ لقوله -تعالى-: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}[9] فاستقرت الدعوة، ولهذا قال ﷺ قال: « الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً عضوضاً ».

        وبدأ يضعف تمسّك بعض الناس في هذا الدِّين، وهذا الضعف يكون على حسب التدرج؛ كما قال ﷺ: « لا يأتي زمان إلا والذي بعد منه شر منه حتى تلقوا ربكم » فكثير من الناس في نزول عن الإسلام. والإنسان عندما يرى الواقع الآن؛ لأن فيه نظراً من ناحية الإسلام، وفيه نظر من ناحية من ينتسب إلى الإسلام، فأنت إذا رأيت الذين ينتسبون إلى الإسلام: منهم من ينتسب إلى الإسلام على وجه الحقيقة ويكون مطبقاً له، وهذا يكون غريباً كما قال ﷺ في الحديث الذي ذكره السائل ولم يكمله؛ حيث قال ﷺ في تكميله: « فطوبى للغرباء »، ووصفهم وقال: « الذين يصلحون إذا فسد الناس »، وفي رواية: « الذين يصلحون ما أفسد الناس »، فالرواية الأولى في صلاح الإنسان نفسه، والرواية الثانية فيها أن الشخص يكون داعية إلى الله -جلّ وعلا-.

        وإذا نظرنا إلى وقتنا الحاضر وجدنا أن الذين ينتسبون إلى الإسلام كثير؛ ولكن المطبق للإسلام الذي ينطبق عليه ما ذكره الرسول ﷺ حينما ذكر افتراق الأمم، وذكر أن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة؛ قال: « كلها في النار إلا واحدة »، قالوا: من هي؟ قال: « من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي » ولا شك أن المسلمين محسودون على هذا الدِّين. وجميع الدول الكافرة التي على وجه الأرض لاشك أنها تحسد المسلمين على هذا الدِّين، ولهذا هم يحاولون إفساد الناس ونقلهم عن هذا الدِّين، سواء كان النقل من جهة العقول، أو من جهة الأموال، أو كان النقل من جهة الأعراض، أو من جهة النفوس، أو من ناحية الاعتقاد.

        فهذه كلها مبادئ ينطلق منها غزو الكفار على المسلمين.

        والواجب على المسلمين أن يقفوا صفاً واحداً في وجه العدوان؛ لأن الرسول ﷺ قال: « يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها قالوا: أمن قلة يا رسول الله؟ قال: لا؛ ولكنكم غثاء كغثاء السيل، تنزع المهابة من قلوب عدوكم ويوضع الوهن في قلوبكم، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهة الموت ».

        فعلى الإنسان أن يصلح نفسه من جهة عقله، يجتنب جميع الأمور التي تفسد العقل، ومن جهة ماله، يجتنب جميع المكاسب المحرمة من الغصب والسرقة والرشوة والربا، وغير ذلك من جميع المكاسب المحرمة؛ وكذلك من ناحية عرضه: يجتنب الزنا، ويجتنب اللواط، ويجتنب النساء السحاق، ويجتنب العادة السرية إلى غير ذلك.

        وكذلك حماية الناس من ناحية القتل؛ يعني: لا يتعدى على نفسه بالقتل، ولا يتعدى -أيضاً- على غيره يؤذيه في بدنه بأي وجه من وجوه الأذى.

        وكذلك يحافظ على نفسه من ناحية الدِّين يمتثل أوامر الله -جلّ وعلا- ويجتنب ما نهى الله -سبحانه وتعالى- عنه. وإذا كان عنده قدرة على أنه يدعو الناس إلى دين الله -جلّ وعلا- فقد قال الرسول ﷺ: « بلّغوا عني ولو آية ». وهذا البرنامج لا يتسع إلى أكثر من ذلك. وبالله التوفيق.



[1] لم أجد من خرجه بهذا اللفظ، وأخرجه أحمد في مسنده(1/244)، رقم(82)، والترمذي في سننه، أبواب المناقب(5/617)، رقم (3681)، بلفظ: "اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك، بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب".

[2] أخرجه أبو نعيم في الحلية(1/40).

[3] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار(4/175)، رقم (3477)، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحد(3/1417)، رقم (1792).

[4] الآية (126) من سورة النحل.

[5] من الآية (28) من سورة سبأ.

[6] من الآية (19) من سورة الأنعام.

[7] الآية (1) من سورة الفرقان.

[8] من الآية (3) من سورة المائدة.

[9] من الآية (56) من سورة القصص.