وقفة مع حديث « نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ »
- شرح الأحاديث
- 2022-03-07
- أضف للمفضلة
الفتوى رقم (12100) من مرسل لم يذكر اسمه، يقول: أرجو التكرم بوقفة مع قول النبي ﷺ: « نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ ».
الجواب:
يقول الله -جل وعلا-: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)}[1].
الله -سبحانه وتعالى- خلق الإنسان وفي الأصل أنه يكون سليماً من العوارض التي تمنعه من أداء حقوق الله من جهة، وحقوق خلقه من جهة أخرى، ويهيئ الله له -جل وعلا- من الوسائل ما يعينه على ذلك، كما في قوله -جل وعلا-: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}[2].
فعلى هذا الأساس عندما يخلق الله الإنسان ويبلغ درجة التكليف، ويكون صحيح البدن؛ هذه الصحة لاشك أنها نعمة عظيمة. والصحة تكون معينة على أداء الواجبات من جهة، وعلى أداء التطوع من جهة أخرى، وذلك بحسب حال الإنسان من جهة اختلاف الغنى؛ وكذلك من جهة اختلاف المتطلبات الأخرى؛ لأن الإنسان في هذه الحياة يسلك مسلكاً وسطاً في أمور دنياه، ويسلك مسلكاً وسطاً في أمور دينه، ويسلك مسلكاً وسطاً في الجمع بين أمور دينه وبين أمور دنياه، ولهذا يقول الله -جل وعلا-: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}[3] ويقول -جل وعلا-: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا}[4].
وعلى هذا الأساس: فلابد أن يكون للشخص منهجٌ في حياته، ويحافظ على ما أوجب الله عليه من جهة، وإذا تمكن أن يزيد على هذه الواجبات من التطوعات من صلاة ومن قراءة قرآن؛ وكذلك من نفع الناس؛ لأن الرسول ﷺ قال: « أحب العباد إلى الله أنفعهم للناس »[5] فبإمكانه أن ينفعهم بقوله، أو بماله، أو ينفعهم ببدنه؛ إلى غير ذلك من وجوه النفع.
وهكذا بالنظر إذا كان عنده أوقات لا يكون له فيها شغل هذه الأوقات كما قال الرسول ﷺ: « إن الليل والنهار خزانتان فانظروا ماذا تضعون فيهما، فإذا جاء يوم القيامة فتحت هذه الخزائن، فالمحسنون يجدون الفرحة والسلامة والمذنبون يجدون الخزي والندامة »، فاثنتا عشرة ساعة يغلق عليها، واثنتا عشرة ساعة يغلق عليها، وهكذا يغلق عليها بما عمل فيها من خير وشر، فإذا جاء يوم القيامة فتحت الخزائن، ويقال له: انظر إلى هذه الخزائن التي عملتها؛ كما قال -جل وعلا-: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)}[6]، ويقول -جل وعلا-: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}[7].
وفيه حديث وما دل عليه هذا الحديث هو جزء منه في الواقع. هذا الحديث هو قوله ﷺ: « اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وفراغك قبل شغلك، وصحتك قبل مرضك، وحياتك قبل موتك، وغناك قبل فقرك ».
فهذه أمور تجري في حياته فلابد أن يتغانم الأوقات والأحوال التي يتمكن بها أن يؤدي ما أوجب الله عليه من جهة، ويزيد -أيضاً- من الأعمال الصالحة. وقف الرسول ﷺ على قبر ومعه بعض الصحابة فقال: « ماذا تظنون يتمناه صاحب القبر؟ » قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: « يتمنى أن يرد إلى الدنيا ويصلي ركعتين خفيفتين مما تستقلون ».
وبناء على هذا الأساس: فكل شخص ينظر إلى حاله من جهة الحياة، ومن جهة الصحة، ومن جهة -أيضاً- الفراغ، ومن جهة الغنى؛ وهكذا في سائر الأحوال الأخرى، ينظر إلى نفسه ويتغانم هذه الأحوال من جهة استغلالها.
والمقصود من هذا هو ما يعود عليه هو؛ أما الله -سبحانه وتعالى- فإنه يقول في الحديث القدسي: « يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً. يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم. يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد منكم مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئاً إلا كما ينقص المخيط إذا ألقي في البحر ».
فالله -سبحانه وتعالى- غني عن عباده، والخلق مفتقرون إليه لا يمكن أن يستغنوا عنه ولا طرفة عين لا بالنظر إلى أمور دينهم، ولا أمور دنياهم، ولا أمور آخرتهم؛ فعلى الإنسان أن يتغانم زمن الإمكان قبل أن يفوت. وبالله التوفيق.