Loader
منذ 3 سنوات

معنى قوله ﷺ :« الدِّين النصيحة... »، وكيف تكون النصيحة لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم؟


الفتوى رقم (1513) من المرسل ح. ع. د من ضواحي بدر – الخُرمة، يقول: ورد عن الرسول ﷺ أنه قال:« الدِّين النصيحة... »إلى آخر الحديث، فكيف تكون النصيحة لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم؟

الجواب:

        الله -جلّ وعلا- أعطى نبيه محمداً ﷺ التكلم بجوامع الكَلِم، يجمع المعنى الكثير في اللفظ القليل، وهذا الحديث من جوامع الكلم، فإن النبي ﷺ قال: « الدِّين النصيحة، الدِّين النصيحة، الدِّين النصيحة، فسُئِل عن ذلك لمن؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم ». فقد اشتمل هذا الحديث على أمور:

        الأمر الأول: النصيحة لله -جلّ وعلا-، والنصيحة لله -جلّ وعلا- تكون بالإيمان به بتوحيده توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات؛ فيُحقق العبد جميع ما لله من حقوق؛ سواءٌ كانت هذه الحقوق قاصرة، أو كانت متعدية، وبهذا يكون قد نصح لله -جلّ وعلا-.

        الأمر الثاني: النصيحة لكتابه، والنصيحة لكتابه يؤمن الإنسان بكتاب الله -جلّ وعلا-، ويتعلمه ويتلوه ويتدبّره ويعمل بما فيه، وبهذا يكون قد نصح لكتاب الله -جلّ وعلا- وقام بحقه.

         الأمر الثالث: النصيحة لرسوله ﷺ، والنصيحة لرسوله ﷺ تكون بالتصديق به، وبالإيمان به، وبالإيمان بما جاء به عن الله -جلّ وعلا-، وبتعُلم ما جاء به ﷺ، والعمل بذلك، ودعوة الناس إليه، والصبر على ما يأتي الإنسان من الأذى؛ فهو مطيع لرسول الله ﷺ في أوامره، ومجتنبٌ لما جاء عنه من النهي، ومصدقٌ لرسالته وداعٍ إليها، وصابرٌ على ما يأتيه من الأذى، بهذا يكون قد نصح لرسوله ﷺ.

        الأمر الرابع: النصح لأئمة المسلمين، والنصح لأئمة المسلمين يختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة والأحوال والأشخاص والنيات، فالناس يختلفون في قوتهم وفي ضعفهم، والحكّام يختلفون بالنظر لما أنِيطَ بهم من الأعمال الجسيمة، ففي بعض الأوقات ينغلق ويضيق صدره، وفي هذه الحال لا يناسب أن يُوجَّه إليه شيء من النصح، وفي بعض الأحوال ينشرح صدره وبالإمكان أن يُوجَّه إليه النصح.

        ثم إن الشخص الذي يُقدِّم النصح، قد يكون من الأشخاص الذين يضعون الأمور في مواضعها من جهة الحكمة، وقد يكون من الأشخاص الذين لا يُحسنون وضع الأمور في مواضعها:

        فالأول: عندما يقدم النصيحة ويضعها في موضعها تؤتي ثمارها.

        والثاني: قد ينتج العكس، هذا من جهة الشخص الذي يقدم النصيحة.

        الثالث: إن الشخص الذي يقدم النصيحة قد يكون عنده من قوة العلم، وقوة البيان، وقوة الإدراك والنظر في مآلات الأمور مما يجعله يبيّن الأمور على الوجه الصحيح، وقد يكون الشخص يقدم نصحاً؛ ولكنه لا يستطيع أن يُبيَّنه على الوجه الأكمل.

        وعلى كلّ حال، فلا بدّ في تقديم النصيحة لولاة الأمور أن يُراعي الإنسان اختلاف الأمكنة والأزمنة والأحوال والأشخاص؛ وكذلك من جهة مقاصده؛ فإذا تبيّن له أن النصيحة ستُحقق مصلحة محضةً أو مصلحة راجحةً، فإنه يُبذلها، وإذا توقع أن النصيحة ستُرتِّب مفسدة محضة ًأو مفسدة راجحةً، أو أنها ترتب مفسدة مساوية للمصلحة، فحينئذٍ لا يُقدِم على النصيحة؛ لأنها لا تؤتي الثمرة المطلوبة منها؛ وإنما تؤتي أثراً عكسياً وهو المفسدة المحضة، أو المفسدة الراجحة، أو المفسدة المساوية للمصلحة.

        ومن المعلوم أن من القواعد المقررة في الشريعة النظر فيما يؤول إليه الأمر فيما يتعلق بنصيحة ولاة الأمور.

        ثم إن الشخص قد يستعمل النصيحة بلسانه، وقد تكون النصيحة بكتاب يكتبه، أو أنه يستعين بأشخاص آخرين يساعدونه على النصيحة؛ يعني: يوجههم إلى الشيء الذي يقولونه فيتولّوْن ذلك. وعلى كل حالٍ فإذا بذل الشخص ما في وسعه من القدرة ومن العلم فقد برئت ذمته فيما قدمه من نصيحة.

        الأمر الخامس وهو: النصيحة لعامة المسلمين، فإن ذلك يحتاج إلى أن الشخص ينظر إلى المسلمين على اختلاف درجاتهم من ناحية المسؤوليات، ومن ناحية تفاوتهم في العلم، وتفاوتهم في الإدراك؛ وكذلك بالنظر إلى اختلاف الأمكنة والأزمنة والأحوال والأشخاص، فحينئذٍ هو محتاج إلى أنه عندما يريد أن يقدم نصيحة لفردٍ من أفراد المسلمين أن ينظر إلى هذا الشخص من أي نوع يكون، فيُقدم له ما يستطيعه من نصح، ولهذا قال الرسول -صلوات الله وسلامه عليه-: « من رأى منكم منكراً فليُغيرُه بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان »

        فالناس درجات بالنظر إلى قدرتهم على تغيير المنكر، والناس درجات بالنظر إلى تغيير المنكر الذي هم واقعون فيه، فمن الناس من لا تستطيع أن تخاطبه في تغيير المنكر، ومنهم من تستطيع أن تخاطبه.

        وعلى كلّ حال فعندما يريد الشخص أن يقدم نصحه لفردٍ من أفراد الناس، فلا بدّ من معرفة حقيقة ذلك الفرد من جهة مستواه من ناحية العلم؛ وكذلك من ناحية المسؤولية التي أُنيطَت به، وتحديد الناحية التي يريد الشخص أن يُوجه نصحه إليها، ويكون في نصحه هذا عالماً بما يأمره به، وعالماً بما ينهاه عنه، ويكون حكيماً فيما يأمره به، ويكون حكيماً فيما ينهاه عنه.

        ومن الأمور التي يُحسن التنبيه عليها في جانب الحكمة، أن الحسن والحسين ابنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه شاهدا شيخاً كبيراً قد توضأ ولم يُحسن الوضوء، فاتفقا فيما بينهما على أن ينصحاه ولكن بالحكمة، اتفقا على أن يتوضأ كلّ واحدٍ منهما كأحسن ما يكون من الوضوء، وأن يُحكّماه فيما بينهما أيهما أحسن وضوءاً، فلما توضأ كلّ واحدٍ منهما كأحسن ما يكون من الوضوء التفتا إليه فقالا له أُيُنا أحسن وضوءاً؟ فقال لهما: أحسنتُما وأسأتُ.

        فإن استعمال الحكمة في دعوة الناس ونصيحتهم من الأمور التي تحقق المصالح؛ أما إذا استعمل الإنسان العنف والشدة في القول أو في الفعل فإن هذا قد يؤدي إلى أثارٍ سيئة.

        والقدوة الحسنة في ذلك محمد ﷺ؛ فإن الله سبحانه وتعالى قد جَبَله على مكارم الأخلاق، فالشخص الذي يريد أن يُحقِّق ذلك، عليه بالرجوع إلى صفاته ﷺ بالكتب التي كُتِبت في سيرته ﷺ. وبالله التوفيق.